تلقيت نهاية العام الماضي دعوة لزيارة دولة جورجيا ضمن وفد صحفي مصري من أجل التعرف على تجربتها الديمقراطية بعد الثورة الوردية التي حدثت عام 2003.. بالطبع قبلت الدعوة لأنها جاءت في فترة حساسة جدا من تاريخ مصر، وهي الحكم العسكري. أخذت أقرأ كثيرا عن تجربة هذه الدولة، وأكثر ما لفت نظري التظاهرات ضد النظام الذي أتت به الثورة قبل ثمانية أعوام.. شعرت وقتها أن ثورة 25 يناير ربما تواجه نفس المصير سريعاً حتى بعد نجاح التجربة الديمقراطية بانتخابات حرة ونزيهة كما حدث في جورجيا. بدأت استشعر أهمية زيارتي أكثر وأكثر، ورسمت مسار تساؤلاتي التي سأطرحها على قادة النظام، ومن بينهم رئيس الدولة نفسه. وفور وصولي إلى تبيليسي (عاصمة جورجيا) طرحت سؤالي سريعاً على الرجل الثاني في النظام وهو رئيس الوزراء: لماذا يتظاهر الشعب ضدكم ؟.. جاءت الإجابة لتؤكد ظنوني عندما قال إن الشعب يريد رفاهية زائدة.. حينها أيقنت أن الثورة في جورجيا ضلت طريقها. وما أن خرجت في اليوم التالي لاستكشاف هذا الشعب الذي يسعى للرفاهية، حتى ثبت يقيني عندما شاهدت المواطنين الجورجيين الفقراء يكتظون داخل حافلة، ضايقني هذا المنظر جدا وتسلل إلى نفسي شعور مخيف بأن يظل شعبنا في هذا العذاب بعد مرور ثمانية أعوام على ثورة يناير.. سألت نفسي: أين الرفاهية التي تحدث عنها رئيس الوزراء بالأمس؟.. قررت أن أواجه مسؤولا آخر بهذا الأمر، لكنه كان أكثر صدقاً من رئيس الوزراء، واعترف بأن هناك مشكلة في إدارة الدولة.. وعدته ألا أنشر شيئاً على لسانه وأن يحدثني بمنتهى الصراحة.. قال لي إن بلاده نجحت في إرساء قواعد حقيقية للديمقراطية بعد الثورة، لكن القائمين على البلاد لم ينجحوا في إدارة قطاعات حيوية، مثل التعليم والزراعة. وهنا جاء دور رئيس الجمهورية ميخائيل ساكاشفيلي.. توقعت أن تكون ردوده دبلوماسية من الطراز الأول. وكان السؤال: لماذا تفشل الثورات؟. لم يتهرب الرئيس من الإجابة، بل ضرب مثالاً حياً من تجربة بلاده، وقال "إن هناك خطأ تقع فيه الأنظمة الحاكمة بعد الثورات، وهو: "اللجوء إلى حلول وسط لإنهاء الأزمات.. والحقيقة أن الثورات لا يصلح بعدها سوى الحلول الجذرية، ونحن وقعنا في أخطاء بسبب اعتمادنا على حلول وسط في بعض الأمور.. كما أن الشباب هم الأجدر بقيادة بلادهم وبإحداث التغيير بعد الثورات". خرجت من هذه المقابلة وقد وضعت يدي على مفتاح نجاح الثورات: "الحل الجذري" و"الشباب" .. رجعت إلى مصر وبداخلي أمل كبير في أن تنتهي فترة حكم العسكر سريعاً لنؤسس لدولة يقودها الشباب وتنتهي فيها الأزمات بحلول جذرية تقضي على الفساد والمفسدين.. مرت الأيام.. انتهى حكم العسكر.. لكن لم يصل الشباب إلى سدة الحكم كما كنت أتمنى.. وأخذت أبحث عن المفتاح الثاني لنجاح الثورة": الحل الجذري" لكن هذا الأمر لم يتحقق أيضاً.. لم أوجه أصابع الاتهام للرئيس وأحمله المسؤولية لأنه بمنتهى البساطة ليس "شاباً ثائرا" يحمل عنفوان الثورة الجارفة التي تزيح كل من يعترضها.. لكن في كل الأحوال بدأت أدعم محاولاته للقضاء على الفساد.. وأتباهى بأن لدينا رئيساً مدنياً منتخباً لأن هذه هي الديمقراطية، ومهمتنا جميعاً أن ندعم رئيسنا إذا أصاب ونقومه إذا أخطأ.. وهذا هو أساس العمل الديموقراطي الناجح وليس ما نشهده حالياً من عمليات تشويه تخدم مطامع الأعداء قبل أن تخدم قوى المعارضة. لكن مع احتدام الصراع السياسي في مصر هذه الأيام، بدأت أعود بأنظاري مرة ثانية إلى جورجيا لأراقب الانتخابات البرلمانية هناك، لعلي استشرف منها مستقبل الثورة المصرية خلال الأعوام المقبلة.. وهنا كانت المفاجأة.. سقط الحزب الحاكم الذي أتت به الثورة الوردية .. لكن هل ضاعت الثورة؟ .. طرحت هذا السؤال مسبقاً على نفس المسؤول الذي صارحني خلال زيارتي لجورجيا بأخطاء الحزب الحاكم وحكومته، لكن إجابته كانت تحمل لي مخاوف كبيرة، عندما رد السؤال بسؤال آخر: هل تعرف ماذا يعني فشل النظام الحاكم الذي أتت به الثورة؟ ..قلت له: نهاية الثورة.. رد بالقول: سقوط النظام الحاكم يعني سيطرة روسيا على جورجيا بالكامل دون الحاجة إلى احتلال المزيد من أراضيها.. سألته: كيف يحدث ذلك؟.. قال لي :إن زعيم الإئتلاف الذي نجح أمام الحزب الحاكم، هو ملياردير مدعوم من روسيا، وفوزه يعني عودة روسيا لحكم جورجيا وبسط إرادتها من جديد. هنا، أيقنت أن الأنظمة الحاكمة بعد الثورات لا تحتاج إلى إرساء الديمقراطية فقط لكي تحافظ على نجاح الثورة وإزاحة الأنظمة البائدة دون رجعة، بل يجب عليها أن تحقق آمال وطموحات شعبها من خلال "الحلول الجذرية" كما تعلمت من التجربة الجورجية، حتى لا تلاقى انتكاسات متتالية، تظهر ملامحها الأولى في التزاوج مع بقايا النظام البائد وحمايتهم من العقاب، وتنتهي بفقدان السلطة، وعودة "الفلول" إلى كرسي الحكم.