"اقرأ".. هى أول كلمات الله للناس فى القرآن الكريم، وفى التوراة بدأت المزامير ب "فى البدء كانت الكلمة"، وشتان ما بين المبدأ والتطبيق، وما بين المفروض وما يفعله الناس، فنظرة عامة على معارف الناس بمصر وطريقة الحوار حتى يتأكد المرء تمام التأكد أن ما أثبتته الإحصاءات الأخيرة بشأن ثقافة الدول بشكل عام -ومصر بشكل خاص- ليس محض صدفة، حتى ليدهش المرء عندما يعرف أن المواطن فى "إسرائيل" يقرأ فى العام أربعين كتابًا، بينما يقرأ ثمانون مواطنًا عربيًا كتابًا واحد فى السنة، ويصدر لكل 350 ألف عربى كتابًا، بينما يقل هذا العدد أوروبيا ليصبح كتابًا لكل 15 ألف مواطنًا!، من هنا نعرف من أين أتت قوة الخصم سياسيًا ومعرفيًا، ف"إسرائيل" تطبع فى السنة الواحدة وتوزع ما يقرب من خمسة عشر مليون كتابًا وتصدر حوالى الألف صحيفة ومجلة داخل وخارج الكيان الصهيونى، أى بما يعادل جميع الصحف والمجلات فى الدول العربية جميعها! أمة "اقرأ".. لا تقرأ"! ل "موشى ديان" وزير الدفاع الإسرائيلى السابق عبارة شهيرة أطلقها إبان حرب 1967 وهى: "إن العرب لا يقرأون.. وإذا قرأوا لا يفهمون!" والعبارة برغم قسوتها إلا أن عدم إغفالها واجب، ويدعو للبحث عن أسباب الفجوة الثقافية الهائلة بيننا وبين الغرب، وسر تردى الوضع الثقافى العربى حتى لقد أصبحت أرفف المكتبات مليئة بالعناوين.. خاوية من المشترين، وأن ما يباع من الكتب إن حدث فإن التقارير تؤكد أن الجزء الأكبر من حصيلة ما يباع يختص بالكتب الدينية والتى يستخدم معظمها لبناء المكتبات فى البيوت والحصول على المظهر الثقافى الاجتماعى اللائق، وباقى حصيلة البيع تتوزع ما بين كتب الطبخ والأبراج، فى مصر بالتحديد الوضع الثقافى مزرٍ، بل من المحزن معرفة أن دور النشر المصرية لا تتعدى أصابع اليدين، وأن دور النشر والتوزيع تلك بدورها تحتكر واحدة منها أو اثنتان طباعة وتوزيع أكثر من 90% من مؤلفات كبار الكتاب والمؤلفين والصحفيين بشكل شبه كامل، وينحصر نشاط باقى دور النشر فى طباعة وتوزيع الكتب الدينية والكتب التى تختص بالدراسات والترجمات. هجران الكتب.. الأسباب لا تعد بسؤال بعض المواطنين تم التأكد تمامًا من أن فكرة قراءة كتاب تعد من المستحيلات بالنسبة للفرد منهم، فمنهم من قال إن ضغوط الحياة والعمل لا تترك له بعضا من وقت الفراغ كى يقرأ فيه كتابًا أو يتصفح جريدة، أصبحت الوظيفة الواحدة لا تكفى، بل لا بد من البحث عن أخرى فقط للعيش كما كان يفعل أصحاب الوظيفة الواحدة قديمًا! موظف على المعاش قال إنه بالرغم من وقت الفراغ لديه إلا أن الفضائيات لم تدع لأحد الوقت كى يمسك بالكتاب، بل إن حصر القنوات التليفزيونية والاستقرار على قناة واحدة لمدة وجيزة من بين مئات القنوات يعد أمرًا صعبًا! شاب آخر قال إن قراءة كتاب أصبحت "موضة قديمة" فما يقوم به فى وقت فراغه القليل أصلًا هو الدخول على الإنترنت، وإذا شعر بالرغبة فى القراءة فإنه يقرأ مقالًا على إحدى الجرائد التى تصدر إلكترونيًا وهذا غاية المراد من رب العباد! أحد مندوبى بيع الكتب ب"دار الشروق" بميدان طلعت حرب قال إن حركة البيع والشراء بالدار قد أصبحت قليلة للغاية مقارنة بما كانت عليه قبل اندلاع الثورة، سألته مندهشًا عن أن المفروض هو عكس ذلك لأن الخوف من السلطة وأمن الدولة وملاحقة الكتاب والصحفيين ومصادرة كتب بعينها، كل ذلك قد تبدل، وأن تفتح المواطنين على معانٍ أخرى كانوا غير معتادين عليها من شأنه أن يقبل الناس بشكل أكبر على الكتب، فأجاب أن حالة عدم الاطمئنان التى انتابت المواطن المصرى جعلت الكل حريص على "الجنية" الذى ينفقه خاصةً مع ارتفاع أسعار الكتب وازدياد خامات طباعتها، وأن الدار أصبحت تعتمد بشكل أكبر على القارئ العربى والأجنبى الذى يقبل على الكتب باللغات الأخرى والكتب المترجمة، وأن ما يباع من الكتب المصرية فقط هى الكتب التى تثير جدلًا كبيرًا وتشد الانتباه مثل "مذكرات حرب أكتوبر" للفريق الشاذلى، و"سر المعبد" لثروت الخرباوى، و"عايزة أتجوز" لغادة عبد العال، وروايات مثل "مولانا" لإبراهيم عيسى و"الفيل الأزرق" لأحمد مراد، و"يعقوبيان" لعلاء الأسوانى. "هيئة الكتاب".. سر من أسرار اضمحلال ثقافة المصريين! على مدى عشرات السنين تم خداع الشعب المصرى بحملة لم تأت كل الزخم الإعلامى الذى كان يصاحبها وهى حملة "القراءة للجميع"، والتى كانت راعيتها زوجة الرئيس المخلوع "سوزان مبارك"، تم طباعة آلاف العناوين لم يتم بيع إلا المئات منها نظرًا لرداءة تلك العناوين ورداءة الطباعة حرصًا على تقليل سعر الكتاب -وهو هدف الحملة الأول- مقارنة بأسعار دور النشر الأخرى. تقوم هيئة الكتاب بدور حكومى بحت كأى مصلحة حكومية أخرى وتتميز بالنمط نفسه فى التعامل مع القارئ المصرى، والوساطة والمحسوبية وتفضيل الأقارب فى شغل أماكن العمل بها، والبيروقراطية فى عملية نشر الأعمال الإبداعية للمؤلفين الجدد وخاصة الشباب. فالذى يعمل فى الهيئة العامة للكتاب فى لجنة النشر هم موظفون ليس لهم علاقة بالمرة بالحركة الثقافية فى مصر. مجرد موظف إدارى تم ترقيته أو حصل على وساطة مكنته من أن يكون أحد أعضاء اللجنة التى تقيم الأعمال المعروضة للنشر!، ومنها نعرف أن ما هو موجود الآن بمعارض الهيئة عناوين لكتب كانت سببًا مباشرًا لعزوف المصريين عن القراءة لأعوام، فمن يدخل أحد معارض الهيئة ليتصفح الكتب نادرًا ما يجد عنوانًا لكتاب يشد انتباهه ليخرجه من مئات الكتب الشبيهة له والتى تترك فى النفس شعورًا بصعوبة البحث وسط كل الكتب الموضوعة عن كتاب يستحق القراءة أو اسم مؤلف شهير. بسؤال أحد الموظفات العاملات بالفرع الرئيسى للهيئة على سبيل التجربة عن "هل أجد كتاب لجمال الغيطانى؟؟" –أحد أهم كتاب العربية فى تاريخ مصر– فأجابت "مش ده بتاع "شخصية مصر"؟؟!!" لأجيبها بأن صاحب موسوعة "شخصية مصر" هو المفكر الكبير "جمال حمدان" وليس "جمال الغيطانى" لتجيب فى نفاذ صبر: "لأ مفيش لده أو لده أى حاجة عندنا"! أحد أكبر الكتاب المصريين فى السنوات الأخيرة "علاء الأسوانى" حكى معاناته مع موظفى الهيئة فى بداياته الصعبة لمحاولة نشر روايته الأولى، وكيف دفعته الصدمة مما جرى لطلب الهجرة من مصر إلى نيوزيلندا يأسًا من محاولة نشر ما يكتب داخل مصر، وأنه تقدم بالرواية إلى هيئة الكتاب وهناك وجد ما أصابه بالذهول؛ حيث وجد أن لجنة القراءة فى هيئة الكتاب -اللجنة المنوطة بإقرار ما سينشر مما سيمنع- ما هى إلا مجموعة من الموظفين الحكوميين التقليديين للغاية انتقلوا بالوساطة إلى هذا المكان الحساس! وبالنقاش مع الموظف المختص فوجئ الأسوانى بانحدار فكرى عجيب؛ حيث أصر الموظف على أن يكتب الأسوانى استنكارًا كتابيًا يثبت فيه أنه غير مسئول عن آراء بطل الرواية "عصام عبد العاطى" ويعارضها بشدة، وانتهى الأمر برفض الرواية تماما لأنها –بحسب كلمات تقرير الموظف- "تسىء لسمعة مصر"! سور الأزبكية ينقرض.. والطباعة "الصينى" تهدد المؤلفين! إحدى الأسباب التى أسهمت فى ندرة الكتاب الأيام الأخيرة وعزوف المصريين عن القراءة هى الحالة المتأخرة التى أصبح عليها سور الأزبكية والذى بعد أن كان مكانًا للمثقفين يضم حديقة ومسرحًا وملحقًا لبيع الكتب الثمينة والنادرة والذى أنشأه الخديو إسماعيل. أصبح السور فى تقلص مستمر لعدد أكشاك الكتب الموجودة به، وأصبح معظمها قاصرًا على بيع الكتب المدرسية والملخصات الدراسية القديمة والتى تشهد إقبالًا كبيرًا وسط غليان أسعار الكتاب المدرسى والخارجى بطبعة السنة الخاصة بها. أما باقى الأكشاك فنادرًا ما تبيع الكتب العادية.. اللهم الكتب الدينية والكتب المثيرة العناوين كالكتب التى تتعرض للشيعة ومذكرات وفضائح السياسيين. أكشاك بيع الكتب بسور الأزبكية يكفى أن نعرف أنها تعامل معاملة أكشاك الباعة الجائلين، وأنها تابعة لمحافظة القاهرة بدلًا من مكانها الطبيعى وهى أن تكون تابعة لوزارة الثقافة أو هيئة الكتاب، ظاهرة أخرى حديثة للغاية هى ظاهرة اتفق أصحاب فرش الكتب بشوارع وسط البلد على تسميتها بظاهرة الكتب"الصينى" وهى حيلة جديدة لجأ إليها أصحاب المطابع المغمورة لمحاولة التكسب عبر تصوير الكتب الجديدة والروايات عبر الماسح الضوئى ثم طباعة نسخة الكتاب إلكترونيًا على ورق آخر ردىء للغاية، غير واضح الكلمات كطبعته الأصلية، ويتم تغليفه بنفس الغلاف الأصلى، وإن كان أقل جودة من ناحية الطباعة، ليباع فى نهاية الأمر بنصف الثمن.. على سبيل المثال أكثر الكتب مبيعًا هذا العام "سر المعبد" فى نسخته الأصلية بدار الشروق يباع بمبلغ 40 جنيهًا ليباع بنسخته "الصينية "ب25 جنيهًا فقط! الأمر الذى يعد كارثة لأصحاب دور النشر الأصليين، ويشكل خسارة مالية كبيرة للمؤلف وصاحب حقوق النشر.