ربما كان أبسط تعريف ملائم للثقافة «الآن» -أى فى هذه اللحظة الخطرة من تاريخنا– أنها كلمة مرادفة لغياب «التحضر» وقرين ملازم لكفّ فعله أو اختفائه. أما لماذا «الآن»؟.. فلأن حالة التحضر بكل معانيها وتجلياتها التى كانت موجودة – أو فلنقل ظهرت فجأة متجلية واضحة متألقة فى الميدان ولمدة ثمانية عشر يوما فقط هى عمر التأجج المتألق للثورة– ثم اختفت بعدها ليحل محلها وبالتدريج المكثف الضاغط حالة شديدة القتامة من الفوضى والتدنى والكراهية وشهوة المخالفة والافتتان بتحطيم أى قانون ومخالفة أى نظام. علاوة على التلذذ المرضى بإهانة الآخرين؛ والتفنن فى إظهار الصفاقة والتبجّح فى كسر كل قواعد اللياقة؛ والتسفّل فى الاعتداء على كافة الأعراف وجرح جميع المواضعات والوصايا الضابطة سواء كانت اجتماعية أو دينية. الأمر الذى يعنى أن فى غياب «صفة التحضر» هذه ومفارقتها للتصرف الذى يقوم الفرد مستقلا منفردا أو يقوم به جمع الشعبى -فى مناسبات اجتماعية عامة كالاحتفالات والأفراح ومباريات الكرة؛ أو سياسية كالتظاهر والاحتجاجات وقطع الطرق والاعتداء على المرافق والاعتصامات- يتجلى غياب الثقافة أو يتجسد «حضورها السلبى» الثقيل الآن ولأسباب كثيرة يمكن تلخيصها فى حالة الخيبة التى مُنى بها المجتمع المصرى من بعد تأميله وتوقه وتشوقه إلى حدوث حالة حقيقية من التغيير ينتقل به من واقع مظلم إلى مستقبل مضيئ لخصته الهتافات الثورية فى مطالب واضحة هى: العيش.. والحرية.. والعدالة.. الاجتماعية، لكن لا يزال نوال أى منها قلقا إن لم يكن عسيرا ومضنيا أو مهددا بالاختفاء! والنتيجة – نتيجة الخذلان التى ارتبطت بعدم الرغبة فى الانتظار أو القدرة على الصبر أو إعطاء الفرصة للنظام الجديد كى يعمل– أنْ فتحت البالوعة الضخمة فوهتها، أو بالأصح قذفت غطاءها لينطلق كل ما بداخلها من عفن وعطن وقذارة ومخلفات متراكمة مكتومة بفعل التخمّر الطويل طوال ثلاثين سنة من الطغيان، وعلى مدى جيل كامل من الفساد ناهيك عن فعل السنين الماضية المقترنة بسياسة الانفتاح الاستهلاكى وزواج الثروة بالسلطة وحكومات رجال الأعمال؛ وقبلها إبعاد أهل الخبرة لحساب أهل الثقة والتنكيل بالمعارضين السياسيين تنفيذا لسياسة «تمكين الدولة/ أو النظام» من «المجتمع» وتغليبه عليه كى تكون النتيجة المؤكدة هى هزيمة 1967، ثم انكفاءة نصر أكتوبر 1973 أو تكريسه لإقامة دولة الانفتاح ومجتمعه والتخديم عليهما كون ذلك مراحل متتالية للسقوط بكل مستوياته وتنويعاته اقتصادية وسياسية ومجتمعية فى دولة مبارك التى يبدو أن ثورة الخامس والعشرين من يناير لم تنهها وإنما اكتفت –وفق إرادة مضادة ضاغطة خارجية وداخلية– بأن تكتفى بقصّ أطرافها أو تقليمها كى يسترد «الجسد» الفاسد القديم نفسه عافيته بتغيير رأسه أو كشط طبقته العليا المتعفنة حتى يتجدد البدن ويقوى ويعود أشد وأعتى مما كان!.. وللحديث بقية.