قبل أيام نشرت وزارة الخارجية الأميركية تقريرها عن ممارسات حقوق الإنسان لعام 2006 والذي يتضمن تفصيلا يستعرض موقف حقوق الإنسان المعترف بها دوليا وذلك في كل دول العالم تقريبا ما عدا - بالطبع - الولاياتالمتحدة نفسها. ومن النظرة الاولى يظهر التقرير متضمنا عدة مفاجآت وإن كانت قليلة. فقد وجهت وزارة الخارجية انتقادها للإبادة الجماعية في دارفور وأشارت الى أن روسيا قد توسعت في تقليص المسؤولية الحكومية وذكرتنا أن كوبا ما تزال تنكر على مواطنيها حقهم الأساسي في تغيير الحكومة بطريقة سلمية. هذا الى جانب ما وثقه التقرير عن الانتهاكات الأخرى لحقوق الإنسان في كثير من الدول. ويمكن القول أن التقرير قد أسهب ليشمل كل أصقاع العالم حتى إمارة موناكو الصغيرة التي وجه اليها انتقادات لإنكارها على مواطنيها حقهم في تغيير النظام الحاكم. وعلى الرغم من الزخم والتبويق الدعائي الذي واكب اعلان وزارة الخارجية الأميركية عن التقرير إلا ان الاستقبال والرد العالمي قد تميز بالفتور المطبق. ولم تكن هناك استثناءات هذا العام. فالصين التي تمثل هدفا دائما جاء تعليقها أن الولاياتالمتحدة قد صوبت ادانتها حول انتهاكات حقوق الإنسان في كافة دول العالم فيما تجاهلت الإنتهاكات التي تمارسها أميركا نفسها ومشاكلها الخاصة. كما تحدث معلقون أجانب عن النفاق وإزدواج المعايير الاميركية. فبعد ما تكشف أمام العالم فضائح غوانتانامو وأبوغريب والحديثة وغيرها من الانتهاكات التي تتنافي مع حقوق الانسان يتساءل هؤلاء : إلى متى تستمر الولاياتالمتحدة في القاء الحجارة على الآخرين (وبيتها من زجاج)؟ وليس هناك ما يمكن اعتباره شرا متأصلا في إخفاق وزارة الخارجية أن تضمٍن تقريرها فصلا عن الإنتهاكات الأميركية لحقوق الانسان. ففي الأصل يظل الهدف الأساسي من التقرير هو الاستهلاك الحكومي الداخلي وكذا فقد تم تصميم التقرير لمساعدة الكونغرس في تحديد تلك الدول المحظوظة التي ستتلقى مساعدات خارجية من الولاياتالمتحدة ( وبالطبع فإن تقاليد الكونغرس تصر على عدم تقديم الولاياتالمتحدة مساعدة امنية للحكومات الاجنبية التي تقف مسؤولة عن إنتهاكات حقوق الانسان) ولأنه - من ناحية التعريف - فالولاياتالمتحدة في تلك الحالة لن تقدم مساعدات لنفسها ومن ثم ليس هناك أسباب - من الناحية التقليدية أيضا - أن يفند التقرير تلك المخالفات والانتهاكات الاميركية. بيد انه ومع مرور السنوات فقد شهدت تلك التقارير تغييرات أخذتها بعيدا عن الغرض الأساسي التي كانت تقصد اليه لتصبح مجالا للإستهلاك الشعبي للدبلوماسية الاميركية. ونتيجة لذلك نهجت تلك التقارير أسلوب إنتقاد حريص لا مناص عن السير ورائه سواءا فيما تتضمنه او فيما تغض الطرف عنه. وإذا ما أمعنا النظر في تقرير هذا العام نجد انه قد أغفل العديد من النقاط الجوهرية فيما تضمن تصريحا فضفاضا ينطوي على مخادعة. يتمثل ذلك في أن التقرير الأخير يتضمن اعترافا غير عادي وخطير عن جوانب فشل أميركي جوهرية حيث جاء به : ندرك أننا في الوقت الذي نكتب فيه هذا التقرير فإن سجلنا الخاص وافعالنا التي نقوم بها للرد على ما تعرضنا له من هجوم كانت موضع تساؤل. وأستهل التقرير حديثه عن الولاياتالمتحدة بالإصرار على ان القوانين والممارسات الاميركية التي تحكم الإعتقالات وطرق المعاملة ومحاكمة الأشخاص المشتبه في ممارستهم انشطة ارهابية قد تطورت الى حد بعيد على مدار الأعوام الخمسة الماضية. تلك التطورات وإن لم تكن كبيرة إلا أنها جوهرية. والواقع فإنه داخل " المطبخ " الخاص بالسلطة التنفيذية فإن مثل تلك العبارات السابقة ينتهي بها المطاف في التقرير السنوي للدولة بعد أشهر من عمليات " الفرم " و"التقطيع " . فتلك العبارات غير المسبوقة ظلت كما هي دون أن يطالها نصل التقطيع لأن وزيرة الخارجية الاميركية كوندوليزا رايس قد حاربت من اجل ذلك واستطاعت الفوز في السجال امام خسارة المعارضة التي تزعمها مكتب ديك تشيني نائب الرئيس الأميركي. بيد انه يجب ألا ننظر إلا تلك العبارات على انها تمثل تحولا جوهريا ولكنها تشير الى زيادة وعي الإدارة بما تعانيه مصداقية الولاياتالمتحدة نتيجة لإنتهاكات حقوق الانسان التي أعقبت 11 سبتمبر. إلا ان هذه العبارات الفضفاضة قد انتقصت منها تلك النقاط التي اغفلها التقرير عن عمد. فتناول التقرير للعراق مثلا يتضمن عبارات جافة عن الحكومة ينتقد عدم توفر الإشراف القضائي في السجون ومراكز الاعتقال العراقية وإعتقال الأفراد وإحتجازهم بطرق تعسفية وتعرض آخرين للتعذيب والانتهاكات على يد عملاء الحكومة ومجموعات مسلحة غير شرعية. بينما أغفل التقرير تماما الإشارة الى ان الولاياتالمتحدة نفسها تحتجر 14 ألف معتقل في العراق على الرغم من أن بعض المسؤولين الأميركيين يقر ان الكثير من هؤلاء المعتقلين أبرياء ومعظمهم لم يحصل مطلقا على فرصة لنفي الإتهام عنه فيما تستمر إدعاءات لها مصداقيتها حول تعرض المعتقلين للإنتهاكات. وكذا يعرض التقرير للإنتهاكات التي تمارسها طالبان والحكومة الأفغانية ولكنه لا يشير مطلقا إلى استمرار احتجاز مئات المعتقلين من قبل الجيش والاستخبارات الاميركية في أفغانستان. كما لا يتضمن التقرير في الجزء الخاص عن بولندا ورومانيا وألمانيا وايطاليا أية اشارة الى السجون السرية الاميركية أو اعتقال أميركا لأشخاص بتهمة الإرهاب ونقلهم الى دول ثالثة تستخدم التعذيب. وفي النهاية فإن إغفال التقرير لكل هذه النقاط والذي يجعل الولاياتالمتحدة محل الوصف بالنفاق إلا أنه ما تزال هناك قيمة للتقرير السنوي ليس أقلها أنه يعرض اعترافا مستمرا من الولاياتالمتحدة أن حقوق الإنسان يجب ان تحترم من الجميع رغما عن الإنتهاكات والخروقات التي باتت وصمة في جبين الولاياتالمتحدة.