لا يستقيم الاحتفال بذكرى إصدار قانون الإصلاح الزراعي الذي أصدرته ثورة 23 يوليو، بدون الاحتفاء بالأب الروحي للقانون، الذي تقدم بمشروع قانون للإصلاح الزراعي، عندما كان عضوا بمجلس النواب عام 1951، في عهد الملك فاروق وقبل عام من قيام الثورة.. إنه الشهيد الحي.. المهندس إبراهيم شكري. ربما لا يعرف كثيرون من جيل الشباب من هو المناضل إبراهيم شكري، وربما لم يسمعوا هذا الاسم من قبل، وهذا أمر متوقع في ظل سيطرة الإمبريالية على وسائل الإعلام المصري، سواء بالتمويل أو الإدارة، وكذلك الحال للإعلام الحكومي، الذي يخضع بالطبع لأوامر كامب ديفيد بتجاهل كل رموز التحرر الوطني والاسقلال في مصر، وعلى رأسهم رجال حزب العمل "الاستقلال حاليا". المهندس إبراهيم شكري هو سليل أسرة معروفة بالنزاهة والوطنية والنضال من أجل التحرر والاستقلال، فوالده هو محمود شكري الذي كان قاضيا بمحاكم مصر واشتهر بالشجاعة والنزاهة فى عمله, ولذلك عندما تولى الملك فؤاد العرش طلب من وزير الحقانية (العدل حاليا) قاضيا ليرأس قسم القضايا فى الخاصة الملكية, فيقدم الوزير إليه كشفا بثلاثة قضاة منهم اسم القاضى (محمود شكرى) فيختار الملك محمود شكرى ليتولى رئاسة قسم القضايا بالخاصة الملكية ويتدرج فى المناصب وكيلا للخاصة الملكية ثم ناظرا لها, ولم يبلغ من العمر أربعين عاما، وبعد عدة سنوات وعندما أحس محمود شكرى بانحراف السراى طلب من الملك إعفاءه من منصبه وأجابه الملك لطلبه, ثم اختير وزيرا للمواصلات فى الوزارة الانتقالية التى شكلها يحيى إبراهيم عام 1924م, وهى الوزارة التى أجرت أول انتخابات برلمانية نزيهة فى مصر. وبعد انتهاء فترته فى الوزارة عين محمود شكرى فى مجلس الشيوخ، وفى ذلك الوقت كان "طلعت حرب" يناضل من أجل استقلال مصر الاقتصادى, ولذلك ساهم معه محمود شكرى بماله وجهده، وعندما قرر طلعت حرب إنشاء شركة مصر للغزل والنسيج بالمحلة الكبرى لم يجد غير محمود شكرى ليكون أول مدير لهذه الشركة ويشرف على بناء مصانعها. هذا هو محمود شكرى والد المجاهد إبراهيم شكرى, وفى أسرة كان عائلها بتلك الصفات من الوطنية والالتزام كان لابد أن يخرج إبراهيم شكرى بصفاته التى نعرفها (ومن شابه أباه فما ظلم). فمن هو المناضل إبراهيم شكري؟ وليد المهندس إبراهيم شكرى، فى يوم 22 من سبتمبر عام 1916م فى حى من أحياء القاهرة القديمة وهو حى الدرب الأحمر فى شارع درب الجماميز (المعروف الآن بشارع بور سعيد) فى المنزل الذى يحمل رقم 339، وهو أيضا المنزل الذى ولد فيه والده محمود شكري. وفى عام 1923م، التحق إبراهيم شكرى، بمدرسة حلمية الزيتون الابتدائية فى حى الزيتون الذى كانت الأسرة قد انتقلت للإقامة به، وفى مدرسة حلمية الزيتون الابتدائية خرج إبراهيم شكرى مع زملائه متظاهرا لأول مرة فى حياته مساندا سعد زغلول ورفاقه ضد طلبات الإنجليز بسحب الجيش المصرى عقب مقتل السردار الإنجليزى "لى ستاك", ونظرا لطبيعة عمل الوالد التى كانت تفرض عليه الانتقال إلى أماكن مختلفة وبالتالى كانت تنتقل معه الأسرة, فانتقل إبراهيم شكرى لمدرسة شبرا الابتدائية ثم انتقل إلى مدرسة مصر الجديدة التى نال منها شهادة الابتدائية. وفى المرحلة الثانوية التحق بمدرستين: الأولى مدرسة تتبع الأوقاف الملكية وهى المدرسة الثانوية الملكية (وسميت بعد ذلك بمدرسة الخديوى إسماعيل).. والثانية مدرسة القبة الثانوية التى نال منها شهادة البكالوريا. معرفته بالزعيم أحمد حسين.. نقلة مهمة في حياته وفى مدرسة القبة الثانوية كان نضجه الوطنى، وهناك سمع نداء الزعيم أحمد حسين يا شباب 33 كن كشباب 1919م, فلبى النداء، وشارك فى توزيع طوابع مشروع القرش الذى دعا إليه المجاهد والمناضل الوطنى، أحمد حسين, ثم انضم إلى حركة مصر الفتاة. وبعد نجاحه فى البكالوريا سافر فى رحلة نظمتها جريدة "الأهرام" إلى عدة بلاد منها إيطاليا والنمسا ورومانيا والمجر وتركيا ولبنان، وكان لهذه الرحلة الأثر الذى غير مجرى حياته، فقبل السفر كان يفكر فى أن يدرس فى إحدى ثلاث كليات: الهندسة أو الحربية أو الأزهر الشريف، ولكن رحلته غيرت من تفكيره, ورجع وهو مصمم على الالتحاق بكلية الزراعة التى تتيح له التواجد وسط مجاميع الفلاحين ليقوم برسالته نحوهم. وفى كلية الزراعة كان اللقاء مع زملائه من أعضاء حركة مصر الفتاة, وكان قد أشتد ساعد الحركة وأصبح تأثيرها على الأحداث فى مصر واضحا, وانتشرت مبادىء مصر الفتاة بين طلاب الجامعة المصرية.. هذه المبادىء التى أقنعت شباب مصر بأن خير سياسة هى سياسة المواجهة.. مواجهة الإنجليز ومواجهة الحكومة وأيضا مواجهة الزعماء. إبراهيم شكري.. الشهيد الحي كان عام 1935م، هو ذروة العمل الوطنى حيث صرح السير "صموئيل هور" وزير المستعمرات البريطانى (وهو يهودى صهيونى): بأن بريطانيا لا توافق على رجوع دستور 1923، وكان لهذا التصريح أثره فى انتفاضة الشعب المصرى ضد الإنجليز، وفى الاحتفال بعيد الجهاد فى 13 نوفمبر سنة 1935م تحول الهتاف إلى: (يسقط السير صموئيل هور) فأصدر الضباط الإنجليز أوامرهم بضرب المتظاهرين, فسقط أحد العمال شهيدا، وفى صبيحة اليوم التالى 14 نوفمبر 1935م كان إطلاق ثورة الطلاب بزعامة أعضاء مصر الفتاة: إبراهيم شكرى وعبد المجيد مرسى وعبد الحكم الجراحى وحمادة الناحل ومحمود مكى وكمال سعد، وغيرهم من أبناء مصر الفتاة.. وارتفع شعار مصر الفتاة الخالد عاليا (مصر فوق الجميع) (يسقط السير صموئيل).. (يسقط الاستعمار). وتدفقت جموع الطلاب من جامعة القاهرة, قاصدة قلب القاهرة, وتسلح الطلاب بفروع الأشجار, وأمسك إبراهيم شكرى بقطعة من الحديد، وتراجع البوليس أمام المظاهرة وتركها تمر, إلا أن الحكمدار الإنجليزى أصدر أوامره الصارمة أن لا تصل المظاهرة إلى قلب القاهرة حتى لو كان ثمن ذلك استخدام الرصاص.. وبمجرد تحرك الطلاب على كوبرى عباس أطلق الإنجليز الرصاص على الطلاب.. وسقط عبد المجيد مرسى وعبد الحكم الجراحى شهداء مع الطلقات الأولى، ورأى إبراهيم شكرى رجل البوليس الإنجليزى الذى قتل زميله عبد المجيد مرسى فاندفع إليه بقطعة الحديد على يده التى تطلق الرصاص على زملائه, فصرخ الإنجليزى وسقط المسدس من يده, ولمح إنجليزى آخر إبراهيم شكرى وهو يضرب زميله فأطلق عليه الرصاص.. وسقط إبراهيم شكرى على الأرض ودماؤه تنزف, ولكنه يرى زميله عبد المجيد مرسى, فيزحف إليه للاقتراب منه حتى يلامسه, ولكنه ما يلبث أن يقع فى غيبوبة تامة.. وعندما هدأت الأمور نقل إبراهيم شكرى وعبد المجيد مرسى على ظهر "عربة كارو" إلى مستشفى القصر العينى.. وأعادت حركة العربة العنيفة إبراهيم شكرى إلى صوابه فيتملكه الحماس ويهتف من أعماق قلبه (يسقط هور.. تسقط إنجلترا.. مصر فوق الجميع).. وظل يهتف حتى راح فى غيبوبة مرة أخرى. وفى المستشفى يفارق عبد المجيد مرسى وعبد الحكم الجراحى الحياة شهداء إلى رحاب الله, ويستطيع الأطباء إنقاذ إبراهيم شكرى ليكون مثلا حيا على عظمة عطاء أبناء مصر الفتاة، ويخرج من المستشفى وقد حمل لقب "الشهيد الحى". وعندما خرج إبراهيم شكرى من المستشفى قال: (لقد وهبنى الله حياة جديدة وأقسم أننى سوف أهبها كلها لمصر)، وقد وفى بقسمه أعظم وفاء حتى وفاته. اعتقاله في 1937 فى عام 1937، وعندما كان إبراهيم شكرى لا يزال طالبا فى كلية الزراعة تزوج إمعانا فى التحصن والعفاف، ولم يكد يتم الزفاف حتى وقع حادث الاعتداء على مصطفى النحاس, فسيق إبراهيم شكرى فى أيام الزفاف الأولى إلى سجن الاستئناف, وفى السجن أمضى شهر العسل. وفى عام 1939م تخرج إبراهيم شكرى فى الجامعة، وهنا أسرع إلى "شربين" ليكرس حياته من أجل الفلاحين. ويقوم إبراهيم شكرى بدور خالد فى الحركة الوطنية المصرية, ويبذل ماله وجهده من أجل مصر، فيدعم حركة مصر الفتاة، ويبنى المدرسة والمستشفى والجمعية التعاونية والمسجد فى شربين، ويناضل من أجل فلسطين, فيمول كتيبه مصطفى الوكيل التى قرر الحزب الاشتراكى (مصر الفتاة) إرسالها إلى فلسطين لتشارك فى معركة عام 1948م، ويحول بيته فى شربين إلى مخزن سلاح لاستخدامه فى معركة التحرير. دخوله البرلمان لدخول إبراهيم شكرى البرلمان لأول مرة قصة طويلة لا ينسب الرجل فيها الفضل إلى نفسه, بل ينسبه إلى أهل شربين.
كان ذلك عام 1950م وكانت شربين جزءا من دائرة انتخابية مقرها طنطا، وكان نائب شربين بطبيعة الحال من طنطا، ولم يكن لأهل شربين من دور حقيقى، فالتذاكر الانتخابية تباع للمرشحين عن طريق الأعيان والإقطاعيين، ولكن أهل شربين قرروا أن يصححوا الأوضاع, وأن تكون أصواتهم ملكا لهم.. وأن يكون نائبهم هذه المرة من شربين. واتجهت العيون ناحية إبراهيم شكرى الذى كان يعيش بينهم يرعى مصالحهم ويدافع عنهم، ولم يدفع شكرى مليما واحدا من تكلفة التقدم إلى الترشيح، فقد جمع أهل شربين مصروفات التقدم للترشيح وذهب وفد منهم ليكون معه فى يوم تقديم الأوراق, وعندما تقدم شكرى وكتب فى أوراق الترشيح أنه عضو بالحزب الاشتراكى (مصر الفتاة) هاجت مديرية الأمن ورفض قائدها تسلم الأوراق، وحدثت أزمة وجرى اتصال بوزارة الداخلية بالقاهرة, فجاء الرد: (سيبوه.. سيبوه.. هو مش هينجح). ولكن أهل شربين أصروا على أن يكون إبراهيم شكرى هو نائبهم, وطافوا معه البلاد فى أصعب الظروف, وقاوموا ضغوط الإقطاعيين وأهل النفوذ، وفى يوم التصويت وأمام الصناديق كانت مظاهرة حب, وتكاثر الناس بالألوف ليصوتوا لشكرى, وكانت النتيجة فخرا لأهل شربين، فأخيرا انتصرت إرادتهم، وأصبح شكرى نائبا عنهم. كفاح تحت القبة وتحت قبة البرلمان ارتفع صوت إبراهيم شكرى مطالبة بخروج الإنجليز من أرض مصر, وبالاستقلال الاقتصادى, وبالعدل الاجتماعى, وبتحديد الملكية الزراعية. وكان جهاد إبراهيم شكرى تحت قبة البرلمان ينم عن فكره وسياسته وأفكار وسياسات مصر الفتاة التى حاول أن يطبقها كلما استطاع إلى ذلك سبيلا. ففى الجلسة الثامنة عشرة المنعقدة فى 17 أبريل 1950م يتقدم إبراهيم شكرى إلى النحاس باشا رئيس مجلس الوزراء بالسؤال التالى: (هل صحيح أن جيش الاحتلال الإنجليزى المرابط فى منطقة القنال قد استقدم خبرات جديدة وضاعف عدده وأسلحته وتخطى الحدود التى رسمتها معاهدة عام 1936م، ووضع منطقة نشاطه ومناوراته, وشرع فى إقامة كثير من المنشآت الحربية؟). وكانت إجابة وزير الحربية (نيابة عن رئيس الوزراء) مختصرة وغير دقيقة حيث قال: تدل المعلومات التى لدينا على أن القوات البريطانية الموجودة بجوار قنال السويس لم تخرج عن الحدود ولم يصل إلى علمنا أنها ضاعفت عددها وأسلحتها وتخطت المناطق المحددة لها). ومما يذكر أن مصطفى النحاس قد قام بإبرام هذه المعاهدة عام 1936م ووافقت كل الأحزاب عليها ما عدا حزب مصر الفتاة والحزب الوطنى (حزب مصطفى كامل) وبعد خمسة عشر عام من نضال أحمد حسين وإبراهيم شكرى ومناضلى مصر الفتاة وقف النحاس نفسه ليعلن إلغاء المعاهدة ليثبت صحة مواقف مصر الفتاة وإبراهيم شكرى. كما تقدم إبراهيم شكرى أثناء نيابته فى البرلمان بمشروع قانون بشأن إحراز الأسلحة كى يستطيع المواطن أن يتسلح ويدفع عن نفسه اعتداءات العدو الأجنبى. كما طالب بإلغاء ضريبة القطن التى فرضتها الحكومة على صغار المزارعين, كذلك تقدم بمشروع قانون بشأن نقابات العمال من حيث إنشاءها ونشاطها واتحاد النقابات, وحق العمال فى الإضراب السلمى. أبو الإصلاح الزراعي وكان أكبر المشروعات بقوانين التى تقدم بها إبراهيم شكرى إلى البرلمان هى مشروع قانون تحديد الملكية الزراعية, وهو المشروع الذى نفذته الحكومة بعد ثورة يوليو 1952م. ففى جلسة الاثنين 20 فبراير 1950م قدم إبراهيم شكرى مشروع قانون بشأن الإصلاح الزراعى طالب فيه بتحديد الملكية الزراعية بجعلها لا تزيد عن 50 فدان للمالك. وإيمانا منه بضرورة تطبيق برنامج حزب مصر الاشتراكى (مصر الفتاة) الذى يمثله تحت قبة البرلمان تقدم إبراهيم شكرى باقتراح بتعديل الدستور لإمكان إلغاء الرتب والألقاب, ليكون المجتمع المصرى طبقة واحدة وليس عدة طبقات، وبالطبع فقد رفض الاقتراح الذى جاءت الثورة من بعد ذلك واستجابت وألغت الرتب والألقاب فى 7 أغسطس 1952م عقب قرار مجلس قيادة الثورة بطرد الملك فاروق. دفاعه عن الحريات ورفض فساد الملك ودفاعا عن الحرية والديمقراطية وقف إبراهيم شكرى فى البرلمان عام 1950م يدافع عن حق أعضاء الإخوان المسلمين فى إعادة تكوين جماعتهم، ومطالبا بإلغاء المادة الخاصة باستمرار قرار الحل. ووقف فى إحدى الجلسات يعارض مصادرة الصحف قائلا أن الحرية لا يمكن أن تتجزأ ومصادرة الصحف ومنع الاجتماعات إنما هى حركات تغير وجهة الكفاح من الإنجليز إلى حرب داخلية بين الأحزاب والحكومة. كما عارض إبراهيم شكرى أثناء نيابته فى مجلس النواب كافة أوجه البذخ الملكى, فقد رفض المشاركة فى تقديم هدية إلى الملك فاروق بمناسبة عقد قرانه، كما عارض بشده الموافقة على اعتماد نحو نصف مليون جنيه لترميم يخت الملك (المحروسة), واعتبر الموافقة خيانة للشعب وتبذيرا لأمواله. الملك يتربص به ويظل إبراهيم شكرى فى البرلمان مدافعا عن آمال الوطن وساعيا نحو تحريره من الاستعمار, ولكن هذا الجهاد لم يكن يروق للنظام الملكى الذى حاول أن يثنيه عن عزائمه ولكنه لم يستطع، فما كان منه إلا أن دبر له قضية "العيب فى الذات الملكية" من أجل إدخاله السجن، وبدأت هذه المؤامرة حين تقدم أحد الوزراء (عبد الفتاح حسن) بطلب التحقيق مع إبراهيم شكرى بسبب مقال نشره بجريدة "الاشتراكية" عدد 26 يونيو 1951م تحت عنوان (ركن المجاهد) أثناء اعتقال الأستاذ أحمد حسين, وكان المقال يحتوى على تحية للأستاذ أحمد حسين الذى كان قد سجن أكثر من مرة فى ذلك الوقت بتهمة العيب فى الذات الملكية. واعتبر ما كتبه إبراهيم شكرى تحيزا لأفعال قام بها أحمد حسين, واعتبر ذلك فى حد ذاته عيبا فى الذات الملكية، وما أن تلقت نيابة الصحافة هذا الاتهام حتى سارعت بطلب رفع الحصانة عن إبراهيم شكرى من مجلس النواب, وتم رفع الحصانة، وعرض إبراهيم شكرى على نيابة الصحافة التى رفضت حضور المحامين معه بحجة سرية التحقيق، وبعد دقائق صدر الأمر بإحالته إلى المحاكمة بتهمة العيب فى الذات الملكية, وتم حبس إبراهيم شكرى احتياطيا حتى موعد محاكمته. وفى يوم 2 سبتمبر 1951م احتشدت جموع الوطنيين أمام المحكمة حتى بدأت محاكمة إبراهيم شكرى أمام قاضى الإحالة الأستاذ ممتاز نصار, وترافع أحمد حسين (الذى كان قد خرج من السجن) ساعتين ونصف الساعة دفاعا عن إبراهيم شكرى, وبعد المداولة قرر القاضى ممتاز نصار الإفراج عن إبراهيم شكرى بكفالة قدرها خمسون جنيها وإحالة القضية إلى محكمة الجنايات, وما كاد القاضى ينطق بقراره حتى دوت أرجاء المحكمة بالتصفيق والهتاف للقضاء العادل وللشعب والسقوط للطغيان والظالمين. ورغم إحالة القضية إلى محكمة الجنايات إلا أن ذلك لم يشف غليل الملك, فهو يريد أن يخرس ذلك الصوت العالى من أبناء الشعب المصرى, وتحين له الفرصة عندما حدث حريق القاهرة فى يناير 1952م ويجد الملك فى حريق القاهرة فرصة للظفر بكل من أحمد حسين وإبراهيم شكرى, فيلقى القبض على أحمد حسين بتهمة التحريض على حريق القاهرة، وعلى إبراهيم شكرى بحجة الاستعداد لمحاكمته أمام محكمة الجنايات، ويستمر إبراهيم شكرى حبيسا حتى يتم عرضه على محكمة الجنايات التى تحكم عليه بالسجن لمدة ستة أشهر. "شكري" وثورة يوليو ويمضى إبراهيم شكرى الأيام فى السجن، ولكن الأحداث تتسارع حتى يهب الجيش لإنقاذ وطنه, ويقوم الضباط الأحرار بثورتهم الخالدة, وتتوالى الأحداث المثيرة التى يسمعها إبراهيم شكرى داخل سجنه ويفرح بها, وكل يوم يتلقى شكرى نبأ جديدا ومثيرا، اليوم تعتقل حاشية الملك، فاروق يتنازل عن العرش، وغيرها من الأنباء التى فرح بها أيما فرح. ويأتى يوم الخميس 31 يوليو 1952م وتتذكر الثورة دعامتها وهم سجناء، فيصدر القرار "الإفراج عن إبراهيم شكرى فورا"، وكان القرار تحية تقدير وعرفان من قادة الثورة، ويخرج إبراهيم شكرى من سجنه إلى مقر قيادة الثورة ليقابل قائد الثورة المعلن اللواء محمد نجيب ليحييه ويطلب منه كذلك الإفراج عن أستاذه وزعيمه أحمد حسين. ويستمر جهاد إبراهيم شكرى بعد خروجه من السجن ويتقدم لمجلس قيادة الثورة بمشروعات القوانين التى قدمها فى مجلس النواب مثل قانون تحديد الملكية الزراعية وقانون نقابات العمال. وعندما يطلب مجلس قيادة الثورة من الأحزاب تطهير نفسها وإشهارها من جديد, يتقدم إبراهيم شكرى فى 15 يناير 1953م بطلب إشهار الحزب الاشتراكى إلا أن مجلس قيادة الثورة يصدر قرارا فى 16 يناير 1953م بإلغاء الأحزاب, وأستند القرار إلى أن هذه الأحزاب كانت سبب إفساد الحياة السياسية فى مصر, ولكن القرار يستثنى من ذلك حزب مصر الفتاة والحزب الوطنى (مصطفى كامل). وتخطو ثورة يوليو خطوات واسعة على طريق الإصلاح، ويشعر إبراهيم شكرى أن الثورة نفذت أغلب ما كان ينادى به هو وحزب مصر الفتاة، نعم لقد ترجمت الثورة مطالب أحمد حسين وإبراهيم شكرى من حلم إلى واقع. وتنشىء الثورة هيئة التحرير ولكن إبراهيم شكرى يعزف عن الانضمام إليها, لأن الثورة فى خطواتها الإصلاحية كانت تتجاوز أمور كثيرة تتعلق بالحريات والديمقراطية، وتدخل الثورة فى الخمسينيات معارك كثيرة وتطل الستينيات برأسها, وينشأ الاتحاد القومى, ولكن إبراهيم شكرى لا ينضم إليه أيضا. ويقرر عبد الناصر أن يحقق حلم إبراهيم شكرى بتحديد الملكية الزراعية بخمسين فدان للفرد, وتصدر قوانين يوليو الاشتراكية، ويجد عبد الناصر لزاما عليه أن يحول الاتحاد القومى إلى الاتحاد الاشتراكى فيفعل، وينضم إبراهيم شكرى إلى الاتحاد الاشتراكى بعد أن وجد أن نضاله من أجل أن تكون مصر المحتلة هى مصر المستقلة. وعقب انضمام إبراهيم شكرى للاتحاد الاشتراكى يصدر جمال عبد الناصر قرارا بتعيين شكرى أمينا للاتحاد الاشتراكى بمحافظة الدقهلية. وفى عام 1964م تأتى انتخابات مجلس الأمة (البرلمان) فيرشح إبراهيم شكرى نفسه, ويعيد أبناء شربين انتخابه عضوا بمجلس الأمة.. ويلتزم خلال عضويته بمجلس الأمة بمبادئه التى عرف بها والتصقت بشخصه، فكان مدافعا عن حرية أبناء مصر ويطالب بإلغاء القانون 119 لسنة 1964م المقيد للحريات، بل ويطالب بالإفراج عن المعتقلين الذين اعتقلتهم الثورة، مما أثار عليه مراكز القوى التى ضاقت به فى هذه الفترة. كما ارتفع صوت إبراهيم شكرى فى هذه الفترة وتحت قبة مجلس الأمة معارضا إصدار قانون يخول لرئيس الجمهورية (جمال عبد الناصر) أن يضع تحت التحفظ كل من صدر أمر باعتقاله من 23 يوليو 1952م إلى 25 مارس 1964م. إبراهيم شكري والسادات ويرحل عبد الناصر ويجىء أنور السادات ليحكم مصر، وفى عام 1971م يتم اختيار إبراهيم شكرى أمينا للمهنيين باللجنة المركزية للاتحاد الاشتراكى. وبعد قيام معركة أكتوبر 1973م يطلب من أعضاء اللجنة المركزية الذهاب للمحافظات المختلفة لاستنهاض الهمم، فيختار أعضاء اللجنة المركزية المحافظات التى يرغبون الذهاب إليها، ولا يختار أحدهم محافظة بور سعيد والبحر الأحمر، ويعلو صوت إبراهيم شكرى: (سأذهب أنا إلى بور سعيد) وفى يوم 17 أكتوبر 1973م ذهب إبراهيم شكرى إلى بور سعيد ليشد من أزر الرجال هناك، وكان أول مسئول من القاهرة يزور تلك المدينة الباسلة, ولهذا حصل إبراهيم شكرى على وسام الاستحقاق من الدرجة الأولى عام 1974م لدوره فى حرب أكتوبر المجيدة. وفى عام 1974م تم اختيار المجاهد إبراهيم شكرى ليكون محافظا للوادى الجديد, فقبل المنصب لينتقل بهذه المحافظة الجديدة النائية من مجتمع الصحراء إلى مجتمع الحضارة والتقدم, ويظل فى منصبه هذا عامين حتى سبتمبر عام 1976م عندما تقدم باستقالته كمحافظ للوادى الجديد ليتقدم لانتخابات مجلس الشعب, ولتعيد جماهير "شربين" انتخابه فى مجلس الشعب تعبيرا عن ثقتها فى ابنها البار, وليدخل مجلس الشعب وليصبح رئيسا للجنة الزراعية به. وفى العام التالى 1977م يحصل إبراهيم شكرى على وسام الجمهورية من الدرجة الأولى تقديرا لخدماته ودوره كمحافظ للوادى الجديد، وفى نفس العام يحصل على وسام الجمهورية من الدرجة الأولى أيضا, وذلك بمناسبة مرور 25 عاما على صدور قانون الإصلاح الزراعى بصفته أول من قدم قانون الإصلاح الزراعى قبل الثورة. معارضته كامب ديفيد وفى نفس العام يتم اختياره وزيرا للزراعة واستصلاح الأراضى, ليظل فى منصبه هذا حتى أغسطس عام 1978م عندما يقدم استقالته من منصبه الوزارى اعتراضًا على دخول "السادات" فى مفاوضات "كامب ديفيد"، ويستكمل مسيرة كفاحه التى بدأها مع الرفاق بتأسيس حزب العمل المصرى الاشتراكى. كان توقيع اتفاقية كامب ديفيد للسلام بين مصر و عصابة العدو الصهيونى عام 1978م نقطة تحول في مسيرة إبراهيم شكري السياسية، حيث عادت به من معسكر الحكومة إلى خندق المعارضة، احتجاجا على انتقال مصر من خندق المقاومة إلى حظيرة اتفاقيات السلام. وبهذه الروح تولى "شكري" زعامة المعارضة في برلمانات السبعينيات والثمانينيات، ما عرضه وحزبه لحملة حكومية شرسة، تصاعدت عقب تحالفه مع جماعة الإخوان المسلمين في انتخابات 1987 ، والتي جعلت ما يسمى التحالف الإسلامي (أحزاب العمل والأحرار والإخوان المسلمين) المهيمن على غالبية مقاعد المعارضة في البرلمان (64 مقعدا) لأول مرة. كان أنور السادات يحاول تحجيم أحزاب المعارضة، فقام بالدعوة لقيام حزب معارضة جديد، لما أسماه وقتها بالمعارضة الصحيحة، ثم قام بما هو أكثر من ذلك إذ قال بأنه لا مانع لديه كرئيس دولة من قيام حزب معارض من داخل النظام، وتكليف إبراهيم شكري بتشكيل الحزب. استقال شكري من الوزارة في 1978 وأعلن مع محمود أبو وافية (زوج شقيقة جيهان السادات) قيام حزب العمل الاشتراكي، حيث أعلن برنامج الحزب في 9 سبتمبر 1978م، و أستلم شكري رئاسة الحزب. إعتبر الكثير أن تلك الخطوة كانت بمثابة إعلان نهاية حزب مصر العربي الاشتراكي برئاسة ممدوح سالم. وبعد جولات وصولات من المواجهة مع عدد من الوزارات والشخصيات الحكومية التي وصفها الحزب ب"الفساد" ، أشهرها الحملة ضد وزير الزراعة الأسبق يوسف والي ؛ بسبب استخدام مبيدات مسرطنة في الزراعة ، قامت لجنة الأحزاب الحكومية بتجميد نشاط الحزب، ومنع صدور جريدته (الشعب) التي كانت أبرز وأقوى صحف المعارضة. مجاهد لآخر نفس وظل الراحل يمارس حياته السياسية حتى وهنت قواه في الأعوام الأخيرة جراء محنة غلق الحزب عام 2000 من ناحية، ودخوله في صراع مع بعض أعضاء الحزب بعدما دفعت جهات أمنية عددا من معارضيه لمنافسته على رئاسة الحزب من ناحية ثانية ، وهو الصراع الذي انتهى لصالحه بقرار المحكمة الإدارية العليا في يونيو 2003 حين قضت بأحقيته في رئاسة الحزب. وحتى اللحظات الأخيرة من وفاته ظل شكري معارضا لجميع مظاهر الفساد، وللسياسة الأمريكية في العالم العربي، رافضا أي مساومات حكومية لإعادة الحزب إلى الحياة السياسية مقابل تخليه عن معارضته الشرسة للحكم. وفي الخامس من أغسطس 2008، ودعت مصر المجاهد إبراهيم شكري مؤسس وزعيم حزب العمل (الاستقلال حاليا) عن عمر ناهز الثانية والتسعين عاما، ليرحل عن عالمنا ويبقى جهاده وكفاحه من أجل استقلال مصر وحريتها علامة مضيئة في تاريخ مصر الحديث.