يعد القضاء من أجل المناصب الدينية والولاية الشرعية ، ولعلها تعتبر من المهن العزيزة مكاناً وشرفاً ومكانةً وقدراً ، والقاضي في ضوء ذلك يعد مقاماً دنيوياً رفيعاً ، وربما أصاب المجتهدون من فقهاء الإسلام المتقدمين حينما وصفوا القضاة بأنهم نواب الله على عباده ، ووكلاء العباد على أنفسهم. وإذا رجعنا إلى القضاء من حيث مفهومه اللغوي لتبين لنا أنه يعني انقضاء الشئ وإكماله وتمامه قولاً أو فعلاً ، والراغب الأصفهاني في كتابه المفردات يرى أن القضاء هو فصل الأمر قولاً كان ذلك أو فعلاً. ومن الفقهاء من اقتصر في تعريفه للقضاء على إنهاء الخصومات وفض النزاعات بين الناس ، ومنهم من رأى أن القضاء حكم شرعي في إحدى الوقائع الحياتية.
ويستمد القضاء مكانته المرموقة من الشريعة الإسلامية ، حيث إن القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة أشارت إلى القضاء والتحكيم والحكم بين الناس ، فيقول الله تعالى في سورة النساء ( وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعماً يعظكم به إن الله كان سميعاً بصيراً) ، ويقول سبحانه وتعالى أيضا في نفس السورة الكريمة : ( إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيماً ) .
أما في السنة النبوية الشريفة فيطالعنا حديث الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) عن مكانة القضاء والقضاة في الإسلام، يقول الرسول (صلى الله عليه وسلم ) : القضاة ثلاثة : قاضيان في النار ، وقاض في الجنة ، قاض عرف الحق فقضى به فهو في الجنة، وقاض قضى بجهل فهو في النار ، وقاض عرف الحق فجار فهو في النار .
وهناك عبارة مأثورة عن الصحابي الجليل ابن مسعود ( رضي الله عنه ) بشأن القضاء ، فقد قال : لئن أقضي يوماً بالحق أحب إلي من عبادة سبعين عاماً .
كما يستمد القضاء مكانته الرفيعة من قوة سلطة الحاكم أو الوالي أو الملك أو الرئيس ، فسلطة القاضي كسلطة الحاكم ملزمة في السن والفصل والقضاء والحكم بين الناس ، لذا تجد أن هناك اتفاقاً يكاد يكون عاماً بين مواصفات الحاكم والقاضي ، تلك المواصفات التي تخولهما النظر في أحوال الرعية والنظر في الخصومات والنزاعات.
وقد كثر الحديث منذ بداية شهر رمضان عن مهنة القضاء والمحاماة وقت ترقب محاكمة الرئيس المخلوع حسني مبارك ورجالاته المتهمين بقتل المتظاهرين، واخذ البعض يبحث بشغف في القوانين الخاصة بالجنايات والجنح وتهم القتل وما شابه كل ذلك ؛ لأن المواطن المصري بعد ثورة يناير لم يعد مواطناً بسيطاً أو عادياً ، بل أراد أن يكون شريكاً في المحفل القضائي والقانوني وقت المحاكمة .
ورغم أنني لا أزعم بأنني من فقهاء القانون ، إلا أنني اجتهدت البحث في المصادر التشريعية والدينية حول القضاء والقاضي ومواصفاته وشروط انتخابه كما يحدث في الولاياتالمتحدةالأمريكية وسويسرا وبعض المحاكم الفرنسية ، أو شروط تعيينه كما يحدث في إيطاليا وبلجيكا ومصر.
ولقد وضع علماء الإسلام شروطاً محددة لاختيار القاضي وتنصيبه حكماً بين الناس منها ألا يكون صغيراً ولو كان ذا بصيرة وتمييز وفضيلة، ومنها العقل ، على ألا يصح تولي المجنون ولا السفيه ولا المختل القضاء. ومن أهم المواصفات التي حددها رجال الشرع لاختيار القضاة شرط الذكورة ، وهذا الشرط من أكثر المواصفات والشروط التي أثير حولها الجدل في الماضي قبل العصر الحاضر أي قبل شعارات تمكين المرأة والمواطنة وتفعيل دور المرأة في المجتمع والشراكة النسائية وغيرها من شعارات الألفية الجديدة. وقد اختلف الفقهاء اختلافاً ضيقاً حيناً، واختلافاً واسعاً حيناً آخر ، فمنهم من يرى عدم جواز ولاية المرأة للقضاء مطلقاً ، وهذا هو رأي جمهور الفقهاء من العلماء المسلمين استناداً لحديث البخاري عن النبي (صلى الله عليه وسلم ) : " لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة" . ومنهم كابن حزم والطبري من يرى جواز ولاية المرأة للقضاء مطلقاً . وهناك فريق ثالث من الفقهاء وأغلبهم من الحنفية من يرى أن المرأة تجوز ولايتها في القضاء في غير الحدود وأحكام القصاص.
ويستند الفقهاء إلى مصدري القرآن الكريم والسنة الشريفة على عدم جواز وصلاحية المرأة لتولي أمر القضاء ، فهم يرتكزون على قول الله تعالى في سورة النساء ( الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض) ، ويدللون على موقفه الرافض بحديث الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) : أن المرأة لا تلي الإمارة ولا القضاء. ويؤكد كثير من مؤرخي السيرة النبوية بأن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ومن بعده من الخلفاء الراشدين لم يختاروا امرأة واحدة في تولية حكم إمارة ، أو ولاية بلد ،أو الفصل بين المتنازعين. وفي مقابل هذا الرفض المطلق لقضاء المرأة ، نجد فريقاً على الشاطئ الآخر مثل الفقيه المجدد ابن حزم يشير إلى تولية الفاروق عمر بن الخطاب الشفاء بنت عبد الله العدوية أمر الحسبة في السوق ، وأن اختياره للشفاء جاء من باب مقاومتها المنكرات المتعلقة بالنساء في السوق . والمستقرئ لهذه الحادثة يستبين أن تعيينها جاء من باب الحسبة لا القضاء. وربما غاب عن كثيرين من المهمومين بالبحث عن مهنتي القضاء والمحاماة بمناسبة محاكمة مبارك أن يستبين معرفة لماذا يرتدي المحامون وربما القضاة في بعض البلدان الأوروبية روباً أسود ؟ والسبب في ذلك يعود إلى فرنسا في عام 1791 ميلادية ، وذلك حينما كان يقف أحد القضاة بشرفة منزله ورأى رجلاً يقتل آخر في الشارع أمام شرفته ثم فر بعد فعلته المشينة ، ثم صادف أن مر رجل بسيط فرأى المقتول فذهب به سريعاً إلى المستشفى ، لكنه أدين بعد ذلك بأنه القاتل. ولغرابة المشهد أن يكون هذا القاضي هو رئيس لجنة محاكمة هذا الرجل الذين اصطحب القتيل إلى المستشفى، لكنه أدانه وحكم عليه بالإعدام لأن القانون لا يعترف إلا بالقرائن والأدلة. ثم مرت السنون وفوجئ القاضي بمحام يترافع أمامه في إحدى القضايا وهو يرتدي روباً أسود ، فاستفسر القاضي عن سبب ارتدائه لهذا الروب الأسود ، فذكره المحامي بواقعة الإعدام السابقة لاسيما وأن القاضي نفسه اعترف بعد حكمه أنه شاهد القاتل الحقيقي واعترف بذنبه وندم على فعلته ، وقال له المحامي أنه ارتدى هذا الروب الأسود ليذكره بفعلته وحكمه السابق والظالم، ومن ساعتها تحول هذا الروب الأسود إلى زي رسمي للمحاماة في فرنسا ومن بعدها كافة الدول الأخرى. والله وحده أعلم وهو الحكم العدل.
*رئيس قسم اللغة العربية صندوق تطوير التعليم برئاسة مجلس الوزراء المصري