ذات يومٍ مشئوم ، وفي صباحٍ عاكر لم تعرف مصر لمثليه مثيل ،جاء إلى مصر فتى فرنسا المدلل وقائد حملتها العسكرية إلى أرض الكنانة "نابليون بونابرت" على رأس جيش قاد في قلبه من نار الحقد والثأر أكثر مما في يده من نار السلاح والعتاد، وحاول نابليون أن يداهن الشعب ويخادعه، فأعلن الإسلام، وأنه جاء ليخلص مصر من ظلم المماليك. ولكن أمتنا الواعية وشعبنا الصادق المثابر لم يكن قد سقطفي عسل كلام الغزاة وأوهامهم فرفضت الاستماع إلى دعاوى ذلك السفاح، وبدأت المقاومة وهبت الثورة من الجامع الأزهر يقودها علماء الدين ومن خلفهم طلبة العلم وعوام الناس. وأخذ السفاح في الانتقام، فكان يقتل كل يومٍ عددًا من المشايخ، ورؤساء المقاومة، ويطوف برءوسهم محمولة على الرماح إرهابًا وتخويفًا. صمدت القاهرة أمام هذا الجيش المبير صمودًا منقطع النظير، فتعرَّضت للتهديم والتحريق، ونهب الأموال، مع سفك الدماء بغير وازعٍ ولا رادع. بعد عامٍ سيطرت عليه الدماء غادر "نابليون" أرض المحروسة وترك وراءه خليفته "كليبر" الذي أوصاه أن يفعل مثله، في سفك الدماء، وهدم القصور والدور ومصادرة الأموال، فثارت القاهرة ثورتها الثانية، وكانت ثورة عارمة، واجهت هذا الجيش الفرنسي الذي كان يرهب أوربا كلها. جان بابتست كليبر قرنان وستة عشر عامًا، مروا على مقتل القائد الفرنسي "جان بابتست كليبر" والذي قتله شاب سوري اسمه "سليمان الحلبي" لم يذكروا عنه شىء. كتبوا عن «كليبر» فقط، وهذا طبيعي؛ فهو بطل معركتي مايستريك وعين شمس وصاحب المعارك البطولية على ضفاف أنهار النيل والراين والأردن، كتبت عنه كل الأقلام، وأشاد به الجميع مؤرخون وشعراء ومصورون وهو الذي قتل من الرجال والنساء والأطفال. أما سليمان الحلبي، لم يهتم أحد بتاريخه لا كتب مذكرات ولا ترك صورًا ولا رثاه شاعر كل ما ذكروه عنه، أنه شاب "أفاق أهوج" سفاح قاتل أخمد نار العدالة الفرنسيه. صور المؤرخون سليمان الحلبي، بأنه شاب متعصب، صاحب هلاوس دينية، قتل كليبر ابن حضارة العدل والإخاء والمساواة الذي جاء لينشر العلم والعمران في وطننا الجاهل المتخلف والحقيقة عكس ذلك، وكل شعارات الحملة لم تكن إلا دجلًا من أعلى طراز كما قال نابليون بونابرت في مذكراته. من هو سليمان الحلبي؟ "سليمان" هو ابن الحاج محمد أمين، تاجر الزبد بمدينة حلب السورية، في الوقت الذي كان فيه التجار تتوالى عليهم الضرائب والغرامات والمصادرات، فيهربون من بلد لآخر. ورث "سليمان" عن أبيه ذلك، فكان كثير التجوال، جاء من حلب إلى القدس عبر الجليل ويافا وغزة ثم درس في الأزهر وحفظ القرآن على يد الشيخ مصطفى أفندي. كان يعيش بجوار الأزهر الشريف، مثله مثل أي شاب، قيل إنه كان قليل الكلام والحديث، لا يعرف أحد ما يدور برأسه، كان في حاله، لا يختلط بأحد، لكن عندما تحوّلت بولاق إلى متاريس، وأخذ جنود "كليبر" يعيثون فسادًا، فلا يتركون رجلًا ولا امرأة ولا طفل إلا وقتلوه. شعر وقتها الشاب الذي لم يتعد سن الخامسة والعشرين، بالقهر، فرؤوس تُذبح، وأموال تنهب، والحرائق لا تنتهى، ومن هنا جاءت فكرة الاغتيال، فالشاب الهادئ المسكين الهادئ صرخ في داخله، بأنه لم يعد يقوى على رؤية ذلك، فقرر أن ينتقم، ولم يعن كثيرًا بما سيلقاه بعد ذلك. كيف اغتال كليبر؟ في مثل هذا اليوم 14 يونيو 1800، كان "كليبر" يسير في ممرات وغرف وحديقة قصر محمد بك الألفي الذي كان يجهزه ويعده ليكون بيته ومقر القيادة الفرنسية، في تلك اللحظة، كان يصاحب "كليبر" في جولته التفقدية للعمال بالقصر، المهندس "جان بروتان" الذي لاحظ شابا نحيفا، قبيح الهيئة يرتدى عمة خضراء يمشي وراء "كليبر" إلا أنه لم يفسر الأمر بجدية، ظنه أحد عمال القصر، وعندما اقترب من الجنرال فجأة، أخرج سكينًا صغيرًا، ثم طعنه في بطنه، وذراعه وخده الأيمن، ثم هرب. محاكمتة البطل أمر الجنرال "مينو" خليفة "كليبر" بتشكيل محكمة عليا مكونة من قيادات الجيش الفرنسي، وفي أثناء المحاكمة، قال "الحلبي": "إننى جئت إلى مصر لأغازي في سبيل الله" ثم صمت، لم يتكلم، كان يضربوه حتى يتكلم، لم يجدوا مفرًا، فأصدرت المحكمة حكمًا قاسيًا عليه نص على حرق يده اليمني، وبعد ذلك يتخوزق، ويبقى على الخازوق حتى تأكل الطيور رمته. وبالفعل نفذوا الحكم، ولم يعِ "الحلبي" بأى شىء، إنه بطل كان هدفه عاريًا من أي منفعة أو أوهام، لم يتألم، لكن إذا رأى ما كتبه عنه المؤرخون، سيتألم أكثر من ألم لحظة إعدامه.