بقلم: د. فايز رشيد لم يدر بخلدِ الشهيد غسان كنفاني أن روايته (عائد إلى حيفا) ستنقلب في جزءٍ منها إلى واقع ملموس, مع اختلاف في التفاصيل بالطبع. الرواية باختصار: حول عائلة فلسطينية سكنت مدينة حيفا. في عام 1948 ونتيجة لسماح سلطات الانتداب البريطاني للعصابات الإرهابية الصهيونية باحتلال المدينة ومساعدتها في ذلك، أشاع الصهاينة جوًّا من الإرهاب والرعب فيها، وكانوا يدفعون الناس دفعًا إلى الهجرة، الأمر الذي أدى إلى ازدحام شديد. وسط الفوضى العارمة والذهول هاجر شاب وزوجته ونسيا أخذ ابنهما خلدون معهما, كان يبلغ من العمر آنذاك خمسة شهور. بقي في البيت الذي سكنته مباشرة عائلة يهودية مهاجرة من بولونيا. بعد عشرين عامًا وإثر نكسة يونيو (حزيران), سافر الأب والأم من رام الله إلى حيفا لتفقد ابنهما وبيتهما. اكتشفا أن العائلة المهاجرة قامت بتربيته، وأصبح خلدون ضابطًا في الجيش الإسرائيلي. عندما خيَّرته أمه بالتبني أن يعود إلى أبويه الفلسطينيين، رفض, ولم يعترف بأبويه العربيين. يكرر التاريخ نفسه ولكن بشكل أكثر ملهاة ومهزلة هذه المرَّة، فقد نشرت صحيفة هآرتس الإسرائيلية عن الموقع الالكتروني للجيش الإسرائيلي، تحقيقًا عن فتاة فلسطينية من نفس مدينة حيفا، اسمها إلينور جوزيف، تربَّت في بيت عربي تخدم مقاتلة في الجيش الإسرائيلي وهي برتبة عريف. الجندية إلينور تدعو كل إنسان للالتحاق بالجيش الإسرائيلي، (لأننا جميعنا نعيش ونحيا في دولتنا وعلينا الدفاع عنها بدمائنا) إلينور تتباهى بأنها حققت حلمها لتصبح مقاتلة في صفوف الجيش الإسرائيلي.أما والدتها وردة جوزيف فتقول إن العائلة المؤلفة منها ومن زوجها شربل وابنتيهما لوريان وإلينور (22 و20 سنة)، فخورة بانخراط أحد أفرادها بالجيش الإسرائيلي. وذكرت الأم أن ابنتها قد تقتل عربًا وفلسطينيين فيما لو حدث قتال وكانت طرفًا فيه. من الطبيعي إيجاد حالات فردية شاذة في كل شعب, ولا يضير الفلسطينيين أن واحدة تُحسب عليهم تعمل جندية في جيش أعدائهم، لكن ما يثير الدهشة في هذه العائلة أن قتل الفلسطينيين والعرب, المفترض أنهم من أبناء جلدتهم، هو مسألة طبيعية بالنسبة إليهم، هذا في الوقت الذي يتواجد فيه كثيرون من الجنود الإسرائيليين يمتنعون عن الخدمة في الجيش داخل المناطق المحتلة, نظرًا للجرائم البشعة والمجازر التي يقترفها هذا الجيش ليس بحق الفلسطينيين فحسب، وإنما بحق العرب جميعًا. على ما يبدو فإن المجندة العتيدة لم تسمع عن الفتاة الأميركية راشيل كوري التي داستها الجرافات الإسرائيلية, وهي تقف أمام بيت فلسطيني يريد الإسرائيليون هدمه. لم تسمع المجندة عن عذابات الفلسطينيين اليومية في الأراضي المحتلة. لم تسمع عن مجازر دير ياسين وكفر قاسم والطنطورة وقانا وبحر البقر ومجزرة الحرم الإبراهيمي ولا عن مجزرة غزة الأخيرة. لم ينقل أهل المجندة لها ما سمعوه من أقاربهم عن التطهير العرقي الذي مارسته العصابات الصهيونية في مدينتها التي تعيش فيها, حيفا, عامي 1947 و1948 بحق الفلسطينيين, واقتراف التنكيل البشع والإجرامي بهم لحملهم على مغادرة وطنهم، وهو ما تحدث عنه الكاتب اليهودي إيلان بابيه في كتابه (التطهير العرقي للفلسطينيين). المجندة بالتأكيد لا تعرف حيفا, لأنها لو دارت في الحي العربي فيها الذي يقع في وسط المدينة, لرأت مئات المنازل الآيلة للسقوط من أملاك الغائبين الفلسطينيين, وقد سنَّ الكنيست الصهيوني مؤخرًا, قوانين تجيز للدولة الاستيلاء على هذه الأملاك وبيعها للإسرائيليين. المجندة لا تعرف أو بالاحرى لا تريد أن ترى العنصرية الإسرائيلية, والاضطهاد اليومي الممارس والتمييز البشع من قبل دولتها (التي تتفاخر بالانتماء إليها) ضد الفلسطينيين, في المجالات الاقتصادية والسياسية والحقوقية والاجتماعية وغيرها. إسرائيل تحاول نفخ هذه الحالات وتكبيرها في محاولة واضحة للإساءة إلى النضالات الفلسطينية والعربية, تمامًا مثلما هوَّلت من أمر عميل لها (مصعب) الذي هو ابن لقائد في أحد التنظيمات الفلسطينية. يكفي ما تقوله المجندة في نفس التحقيق الصحفي من أن الجيران العرب لعائلتها والذين يسكنون في حي النسناس ينظرون إليها بكراهية وغضب كبيرين, وكأنها اقترفت جريمة كبرى. ويكفيها مثلما تقول إنها تخشى المرور في شوارع الحي ليلًا خوفًا من قتلها أو اختطافها. لم أجد ما ينطبق على المجندة أفضل من المثل العربي القائل (إذا لم تستحِ فافعل ما شئت).