في نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات من القرن الماضي كانت تجوب شوارع العاصمة المصرية، القاهرة، مجموعة من الحافلات الاميركية الصنع تختلف كثيرا عن حافلات شركة النصر المصرية الصنع وحافلات مرسيدس الايرانية او التركية الصنع. بدا الاختلاف في كل شئ، لكن المميز ان تلك الحافلات الاميركية كانت تحمل عند بابها الامامي العلم الاميركي، تحت علامة المعونة الاميركية وهي عبارة عن كفين متصافحين وكانت تلك الحافلات منحة لهيئة النقل العام المصرية في اطار المعونة الاميركية، التي اقرت في ذلك الوقت لكل من مصر واسرائيل بعد توقيع اتفاقية سلام بينهما رعاها الرئيس الاميركي وقتها جيمي كارتر ووقعها الرئيس المصري الراحل انور السادات ورئيس الوزراء الاسرائيلي انذاك مناحم بيغن . وعلى الطريقة المصرية، بسرعة اطلق الناس على تلك الحافلات "اتوبيس كارتر" لتمييزه عن بقية انواع الحافلات العاملة على خطوط هيئة النقل العام في القاهرة. وبعد نحو عامين كانت تلك الحافلات وصلت الى حالة مزرية من التردي، كعادة السيارات الاميركية عندما تستخدم في المنطقة العربية ولا يعرف السبب ان كان سوء وضع الطرق ام طريقة الاستعمال. اهم ملمح للتردي كان تفكك الاعمدة التي يستند اليها الوقوف في الحافلة، وتفكك الارضيات التي يقفون عليها ومع الزحام التقليدي في الحافلات المصرية، اصبح ركوب "اتوبيس كارتر" يعرض المرء لحالة الرقص الاجباري بسبب طبيعة شوارع القاهرة وتخلخل الارضيات والاعمدة في تلك الحافلات ولمن تورطوا في العمل العام الى حد زيارة مراكز التأديب الامنية، كان التشابه كبيرا بين الرقص الاجباري في تلك الحافلات وعملية الترقيص الاجباري في غرف استقبال الاجهزة الامنية باستخدام الصفائح المسخنة والوقوف عليها بقدمين عاريتين . الخلاصة، ان العامة في مصر تحولوا الى تسمية تلك الحافلات "اتوبيس طرطر"، وذلك باستبدال اسم جيمي كارتر بالفعل المعروف في اللهجة العامية المصرية، والذي يعني التبول وقوفا عند الرجال . وذهب الرئيس الاميركي واختفت الحافلات وظلت تلك الذكريات لدى من ركبوا تلك الحافلات في يوم من الايام وبعد نحو ثلاثة عقود الان، عادت اسماء "جيمي" وما شابه تشتهر في المنطقة، كدورات طرز الازياء (الموضة) التي تعود كل فترة ومع التحولات التي تشهدها المنطقة، وبروز تيارات تنويرية جدا فيها، لم يعد فعل "طرطر" بالكلمة الغريبة المثيرة للفكاهة كما كمان الامر لدى العامة من الناس قبل ربع قرن وفي الاونة الاخيرة، ومن كثرة ما يشاهد المرء ويسمع من المنطقة ، الحت علي ذكريات حافلات "طرطر" وسلام "جيمي" والرقص الاجباري الذي كاد الان يكون اختياريا وتخيلت ان احد دروس كتب المطالعة في مدارسنا يمكن ان يكون "عودة جيمي طرطر" فهاهو معجم الايتيكيت التقليدي للمرأة في بريطانيا يصدر هذا العام مليئا بتعليم البنات والسيدات كيف يخن ازواجهن وكيف ياتين التصرفات "المشينة سابقا" دون تلعثم، بدلا من تعليمهن طريقة المشي المحترمة او كيف يمسكن فنجان القهوة ويمتلئ المعجم بتعاليم كل ما هو قبيح ولا اخلاقيا ومثيرا للاشمئزاز، بالطبع ليواكب ويسبق التوجه العام للمنحى الاخلاقي في الغرب والعالم الاخذ في الانحدار. كما ان الشخصيات العامة التي كان غالبا دورها ان تكون قدوة حسنة في الذوق والاخلاق لم تعد كذلك في الاجيال الجديدة، ولا اقصد لدينا بل تحديدا في الغرب وربما اصبح الشرق بتخلفه اكثر احتراما الان، بل اصبحت تتعمد التبجح بالسلوكيات غير الحميدة من طريقة الكلام الى ممارسات الفساد ولم تعد الاجيال الجديدة تتعلم قيما واخلاقا، بقدر ما اصبحت تلتقط كل ما هو سلبي من عجرفة وعناد فارغ واهتمام بتوافه الامور والسطحية الشديدة في كل شئ ربما يكون ظهور رئيس الوزراء البريطاني توني بلير والرئيس الاميركي (الديموقراطي) السابق بل كلينتون معا في نهاية المؤتمر السنوي لحزب العمال الحاكم في بريطانيا هو ما حدا بي الى الاسترجاع للذكريات فكلاهما شاب سلوكه كل ما يمكن وصفه ولا يمكن من نقائص، ويصران على وعظ الناس في العالم كيف يعيشون ويسلكون. وليس في الامر دلالة ابعد مما ذكر، ولا يحمل الكلام اي اسقاط مبطن او صريح، ولا علاقة له باستمرار ظهور زعماء بشعر ابيض وملامح حادة، ولا بوضع المواصلات العامة في بلادنا العربية ولا بما تحت الجسور والكباري من تراكم مثير. اهي "تخاريف صيام"، كما يقول المثل العامي الشائع! ام هي نتيجة التأثر بصريا بمنتجات ما بعد الحداثة في الاعلام! والله اعلم، ورمضان مبارك .