هذا الرجل بحق موسوعة قرآنية وعلمية، مكنه إخلاصه في رحلته النورانية من اجتياز عقبات كثيرة، وتصدر مهام يصعب أن يقوم بنصفها من يفوقونه بمثل عمره عمرا آخر.. نتعلم منه الآداب التي تحلى بها كطالب علم خفيض الجناح لعلمائه وشيوخه، وكيف يكون الإخلاص الذي أهله أن يكون شيخا للمقرئين.. تابعوا التفاصيل. ولد الشيخ أحمد عيسى حسن المعصراوي، بقرية “دنديط” التابعة لمركز ميت غمر بمحافظة الدقهلية إحدى محافظات جمهورية مصر العربية، وكانت ولادته بتاريخ 1/3/1953م، ونشأ في مسقط رأسه “دنديط” التي كانت كشأن كل القرى المصرية محبة للقرآن وأهله، فلا يكاد بيت من بيوتها يخلو من حافظ أو ساع إلى ذلك.. فلما بلغ السادسة من عمره ذهب به أهله إلى إحدى مدارس القرية، إلا أن ناظر المدرسة لاحظ نبوغ الصبي في حفظ القرآن الكريم، فنصح جده لأمه الشيخ على السحيمي الذي كان يقوم بتربيته ورعايته؛ لأن والده كان يقيم خارج هذه القرية، نصيحة غالية بإلحاق حفيده بإحدى كتاتيب القرية، فانشرح صدر الجد لهذه النصيحة، واستجاب لها فورًا. تلميذ الفطاحل كان الاختيار الأول لكُتَّاب جده لأبيه المدعو بالشيخ عبدالحميد المعصراوي، ثم انتقل إلى كُتَّاب الشيخ عبدالحميد حجاج، الذي كان رفيقًا بالتلاميذ عطوفًا عليهم، فمكث بهذا الكُتَّاب الجديد سنة واحدة حفظ فيها القرآن كاملاً، وذلك سنة 1964م.. ويحكي الشيخ المعصراوي بعض ذكرياته في هذا الكُتَّاب قائلاً:”لم يضربني الشيخ حجاج إلا مرة واحدة، ولم تكن بسبب الحفظ، بل كانت بسبب اللعب، إذ تغيبت مع بعض رفقائي في الدراسة في أحد الأيام، وعندما عدنا إلى الكُتَّاب في اليوم التالي سألنا الشيخ: أين كنتم؟ فأشار له زملائي بأنني سبب غيابهم عن الكُتَّاب.. ومن يومها كنت أبكي إن تقدم عليَّ أحد في الحفظ”.. ويضيف حول هذه الفترة: “أكرمني الله تعالى بأن حفظت القرآن الكريم بقريتي على يد الشيخ عبدالحميد حجاج رحمه الله وكان عندي حينئذ عشر سنوات، ثم ذهبت فجودته برواية حفص عن عاصم على يد الشيخ محمد إسماعيل عبده رحمه الله وكان من علماء القراءات السبع فقد تلقى القراءات السبع عن الشيخ الصندباسطي عن والده الشيخ إسماعيل عبده، وكان عنده حينئذ من العمر 84 عامًا، وبعد أن جودت رواية حفص قرأت عليه برواية نافع.. بعدها ذهبت إلى مصر وكان يقطن بها والدي رحمه الله فالتحقت بمعهد القراءات، وفي أثناء دراستي في هذا المعهد كان هناك الكثير والكثير من العلماء الفطاحل الذين قل أن يوجد مثلهم في هذا الزمان ومنهم الشيخ الهمزاني رحمه الله، والشيخ أحمد الأشموني، والشيخ محمد السيرتي، والشيخ أحمد مرعي، والشيع عبدالمتعال عرفة، والشيخ أحمد عيطة”. نجاح تلو نجاح وبعد أن تخرج الفتى من هذا الكُتَّاب.. صادف أن استمع إلى تلاوته أحد وكلاء الأزهر الشريف، فأُعجَب به، وأشار عليه بالالتحاق بأحد المعاهد الأزهرية للقراءات، فوقع الاختيار على معهد قراءات شبرا الأزهري بالخازندارة بالقاهرة، قريبا من عمل والده، وبالفعل غادر الفتى بلدته لأول مرة متوجها إلى العاصمة، لكنه لم ينبهر بأضوائها، إنما سلك الطريق الذي من أجله جاء، فأتم في معهد القراءات دراسته حيث حصل على جميع الشهادات التي تُمنَح للطالب في مختلف مراحله، ثم التحق بكلية الدراسات الإسلامية بجامعة الأزهر، وحصل على الإجازة العالية في الدراسات الإسلامية والعربية، وذلك سنة 1980م، ثم سافر إلى المملكة العربية السعودية للعمل بكلية المعلمين من سنة 1981 إلى 1985م.. بعدها واصل جهوده في تحصيل العلوم والمعارف وشتى الثقافات النافعة، فسجَّل بقسم الدراسات العليا؛ للحصول على الماجستير، وكان موضوع البحث بعنوان “الأحاديث العقدية في الكتب الستة”، فوُفِّقَ لنيل درجة الماجستير بتقدير ممتاز سنة 1989م، ثم سجَّل بقسم درجة العالمية “الدكتوراه” في الحديث النبوي وعلومه بعنوان: (كتاب الآثار” للإمام محمد بن الحسن الشيباني، تحقيق وتخريج ودراسة) فحصل على هذه الدرجة العلمية بتقدير ممتاز مع مرتبة الشرف الأولى سنة 1992م.. وقد تقلَّب فضيلته في العلم والمعرفة حتى اكتسب ثقة القائمين على الشئون العلمية، فأسندوا إليه مهام علمية في مختلف البحوث، ومنها أن تم تعيينه مدرسًا للعلوم الشرعية بالمعاهد الأزهرية، وكان آخر معهد درَّس فيه معهد القراءات الأزهري بشبرا بالقاهرة، ثم تمَّ نقله مدرسًا للحديث بقسم الدراسات الإسلامية بكلية التربية بجامعة الأزهر، ثم رُقِّيَ إلى درجة أستاذ مساعد بالقسم المذكور، ثم حصل على الترقية إلى أستاذ بنفس القسم، كما عمل أستاذًا بقسم الدراسات العليا بكلية القرآن الكريم للقراءات وعلومها بطنطا، وعلى عضوية لجنة مراجعة المصاحف بمجمع البحوث الإسلامية سنة 1988م، ثم عُيِّن نائباً لرئيس لجنة المصحف الشريف بالمجمع المذكور، وذلك عام 1999م، ثم تمَّ اختياره رئيسًا للجنة مراجعة المصاحف بتاريخ 6/1/2003م، كما عُيِّن عضوًا باللجنة الموحدة لاختيار القراءات بالإذاعة والتلفزيون المصري 1999م، وعين شيخًا لمقرأة مسجد الإمام الحسين بالقاهرة منذ عام 1980م، وشارك في معظم المسابقات القرآنية الدولية، كما شارك في المراجعة النهائية لكل من مصحف: الإمارات، سلطنة عمان، قطر، الكويت، وسلطنة بروناي.. واختير شيخًا لعموم المقارئ المصرية بتاريخ 24/4/سنة 2004م. القراءات العشر يقول الشيخ المعصراوي: “كنا نقرأ القراءات على الشيوخ الأجلاء وندرسها دراسة جيدة، ونجمع الروايات، فكنا نقرأ الروايات القرآنية سواء جمعًا أو فرادى، فتعلمنا في هذه المرحلة ما لا نجده الآن في هذه الآونة في معاهد القراءات”.. وقد شارك الشيخ في تحكيم كثير من المسابقات في شتى أقطار العالم الإسلامي، كما شارك في كثير من اللقاءات الدولية للوعظ وللإمامة وصلاة التراويح في كثير من أقطار الدنيا.. وقد تربَّى فضيلته على يد علماء أفذاذ، وجثى ركبتيه أمام أساتذة أماجد، فتلقى منهم القراءات العشر الكبرى، والصغرى، والسبع، فمنهم الشيوخ: عبدالحكيم عبداللطيف عبدالله، محمد عبدالحميد عبدالله، عبدالحميد حجاج، محمد إسماعيل عبده الدنديطي، عامر السيد عثمان شيخ عموم المقارئ المصرية الأسبق، بكري عبدالمجيد الطرابيشي الدمشقي صاحب السند العالي.. ولقد تتلمذ على فضيلته جم غفير، وعدد كبير ما بين المعاهد القرآنية الأزهرية والخاصة، من بينهم الداعية الإسلامي محمد حسان، والشيخ مصطفى اللاهوني. أما رحلاته القرآنية فقد طاف فضيلته وتجوَّل في بلاد الشرق والغرب في سبيل خدمة القرآن الكريم، والإشراف على المشروعات المتعلقة به وعلومه في كافة الأجهزة السمعية والمرئية، فمن الدول التي استضافته: السعودية، أوغندا، ماليزيا، السودان، باكستان، اليمن، غانا، جامبيا، تايلاند، بروناي، المالديف، الهند، يوغسلافيا، سلطنة عمان، قطر، الكويت، البحرين، المغرب، الإمارات، الإكوادور، تركيا، سوريا، لبنان، سويسرا، لندن، كندا، ومعظم الولاياتالمتحدة الأمريكية. عطاء متواصل ولم يقتصر دور الشيخ المعصراوي في خدمة العلم والمعرفة على الخطب المنبرية والمحاضرات في الدوائر والمجامع العلمية، بل أسهم في ذلك بقلمه الفيَّاض، فألف كتبًا، ونشر مقالات في الصحف والمجلات، فمن مؤلفاته: الدر النثير والعذب النمير، شرح التيسير في القراءات السبع، تحقيق كتاب “مناهل العرفان في علوم القرآن”، منحة الفتاح في أحاديث النكاح، نكاح المتعة بين التحليل والتحريم في ضوء السنة النبوية المطهرة، معالم الاهتداء في أحاديث خاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم، أحكام النذور من سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، أحكام الهبة والهدية من سنة خير البرية صلى الله عليه وسلم، الشفاعة في ضوء الكتاب والسنة، صريح المنقول في الحديث الموضوع، القراءات الواردة في السنة النبوية المطهرة، وغيرها من الكتب القيمة أدب طالب العلم وطبقًا لمبادئ الإصلاح والتجديد في مضمار الشئون القرآنية والثقافة القرآنية ومكافحة الأميَّة القرآنية المنتشرة بين كثير من المسلمين والمسلمات، افتتح الشيخ المعصراوي مركزا للدراسات القرآنية كمعقلٍ علميٍّ ينطلق منه لتحقيق هذه العملية الإصلاحية لأوضاع القراء، والمقرئين من حيث الأداء القرآني؛ ليتعلم المسلمون القرآن المجيد تلاوة وحفظاً وتجويداً، مع تزيين ذلك بتربيتهم على التخلق بأخلاق القرآن السامية، والتأدب بشمائله الكريمة مما يؤهلهم لأن يكونوا نخبة ممتازة ذات إسهام في تعليم القرآن، وتحفيظه على الطريقة الصحيحة السديدة. وينصح الشيخ كل طالب علم بأن يراعي ظروف شيخه ووقته ونفسيته، وألا يضايقه في مكانه الذي يقرأ فيه، ولا يضيق عليه الخناق.. وأن يتحلى مع شيخه بالصدق، وأن يكون مع شيخه كالابن مع أبيه، يقبل يديه ويحترمه، فتقبيل يد العلماء أمر مندوب أو واجب كما يقول الإمام النووي في آداب حملة القرآن. أخيرا.. يشير إلى أن أهم شيء يستفيده طالب الإجازة القرآنية أنه قد جلس فعلاً بين يدي شيخه، وقرأ القرآن كله ليتعلم ويتلقى مشافهة الألفاظ التي ورد فيها بعض الأوجه، وهي ألفاظ لا يمكن معرفتها إلا عن طريق المشافهة، مثل الإشمام في قول الله تعالى {قالوا يا أبانا ما لك لا تأمنا على يوسف} الإشمام في “تأمنا” إشارة إلى أن هذا الحرف مضموم فلابد من ضم الشفتين في هذه الكلمة عند حرف الميم.