المؤلف: لويدس جاردندر عمليات تسليم المعتقلين وما رافقها من تعذيب وقتل هددت استقرار حلفاء أمريكا وأثارت المشاعر المعادية لأمريكا تعاون عمر سليمان مع المخابرات الأمريكية وقدراته الفائقة فى السحل والتعذيب ليصبح أفضل «شبح» مرعب فى الشرق الأوسط.. لكن هذه العمليات أضرت بالمصالح الأمريكية الرؤساء الأمريكيون يحاولون إقناع مصر بزيادة نشاطها العسكرى والسياسى فى المنطقة شرط أن يكون لأمريكا القول الفصل فى كل ما يحدث بالشرق الأوسط سياسات مبارك القمعية وامتلاء المعتقلات والسجون بالمعارضين لم تمنع الشعب من الثورة عليه وخلعه أمريكا أرسلت 100 ألف جندى إلى أفغانستان للحرب ضد طالبان لتتحول المعركة إلى «مقبرة الإمبراطوريات» ما اضطرها إلى سحب قواتها قادة العرب راقبوا الربيع العربى خوفا على مناصبهم.. أما الشعوب فأعلنت تضامنها وابتهاجها واعتبرتها بداية للتخلص من زعمائهم المستبدين والطغاة البرادعى متهكما: خطاب تنحى المخلوع خدعة من دكتاتور يرفض الاستماع إلى صوت الشعب ويرحل أوباما ناشد عمر سليمان إلغاء الطوارئ فرفض وقال إن الشعب المصرى يفتقد ثقافة الديمقراطية وغير مؤهل لذلك كانت هيئة الاستخبارات المصرية برئاسة عمر سليمان قد راكمت كنزا نفيسا من المعلومات حول القاعدة وغيرها من الجماعات الإسلامية فى الشرق الأوسط. فى هذا الصدد، أثناء الحرب الباردة، كتب بروس هوفمان خبير دراسات الإرهاب بجامعة جورج تاون، يقول إن للولايات المتحدة نافذة تطل منها على الاتحاد السوفييتى عبر إيران، ثم أضاف: «لدينا نافذة مماثلة نطل منها على إيران والبلدان الأخرى عبر مصر» كما أضاف بعد سقوط مبارك: «أيا كان ما سيحدث، فلن تكون الأمور كسابق عهدها أبدا». بيد أن المعضلة التى واجهت صناع السياسة كانت هى أن عمليات «التسليم» تلك وكل ما رافقها من تعذيب وقتل، هددت الاستقرار الذى كان حلفاء أمريكا قد تمتعوا به لوقت طويل، ولم يكن بالإمكان أن تظل سرية، وأثارت المشاعر المعادية لأمريكا، دون إمكان انتزاع معلومة مهمة. وعلى الرغم من أن تعاون عمر سليمان وقدراته الفائقة أكسبته الإشادة به كأفضل «شبح» مرعب فى الشرق الأوسط، فإن تلك العمليات أضرت بالمصالح الأمريكية القومية. وكما أكد دنيس بلير أول مدير للاستخبارات القومية فى عهد أوباما، فقد كان لهذا التعاون فى مجال الاستخبارات والتجسس بمصر وليبيا، نتائج سيئة؛ حيث «لم يقتصر الأمر على أن تلك العلاقات الاستخبارية قللت من قدرتنا على فهم قوى المعارضة، بل أيضا فإن مواطنى هذه البلدان يماهون بين الولاياتالمتحدة وآلات القمع». صناع السياسة الأمريكان استمرت مصر بصفتها الدولة المفتاح بالنسبة إلى صناع السياسة الأمريكيين فى محاولاتهم لإيجاد حل للصراع العربى-الإسرائيلى، وبصفتها قد ظلت أيضا مسمار المحور فى كثير من المبادرات الأخرى للشرق الأوسط منذ عام 1952.. استمرت تمثل عقبة كئودا لصناع السياسة الأمريكيين الذين كانوا يأملون أن تتطور المنطقة سياسيا على أساس ليبرالى موال للغرب. رأى البعض أن لب المشكلة يكمن فى المعونة العسكرية السنوية التى تتلقاها مصر وتبلغ 1.5 مليار دولار وعلاقتها بإمكانية إقناع مصر لتتبنى الإصلاحات السياسية، وبدورها تداخلت هذه القضية فى حوار ذى صلة عما إذا كانت مصر تراكم أسلحة تلك المعونة استعدادا لشن حرب أخرى مع إسرائيل. وكانت تلك قضايا خلافية مربكة، كثيرا ما برزت فى مناقشات الكونجرس والإعلام فى السنوات الأخيرة من حكم مبارك، بل إنه يمكن القول إن تصميم المحافظين الجدد على شن حرب على العراق كان نتيجة مصادر قلقهم الأكثر شمولا التى تضمنت استنتاجات عن عدم الوثوق بالمضى فى إعداد الجيش المصرى كقوة تجابه المتمردين الفلسطينيين أو الإيرانيين. المزايا والهبات أشار فريش أيضا إلى نجاح الجيش المصرى فى الحفاظ على قوته؛ ليس بالاعتماد على الأسلحة الأمريكية فقط، بل بالمزايا والهبات أيضا التى يمنحها مبارك لأفراد القوات المسلحة الموالين له، وأضاف أن تلك هى خاصيات الجيوش قبل الحداثية «التى لا يزال أمامها الطريق طويلا قبل أن تحقق النقلة لتصبح جيوش دولة ما بعد حداثية، دولة وظيفية ذات توجهات عالمية» كتلك التى أرادها صناع السياسة الأمريكيون، بدءا من إدارة بوش الأب وحتى باراك أوباما؛ أرادوا لمصر أن تصبحها. وفى واقع الأمر، فمنذ عام 1991؛ حينما طلب بوش الأب من مصر المشاركة فى حرب الخليج الأولى، وحتى خطاب أوباما بالقاهرة عام 2009؛ ظل الرؤساء الأمريكيون يحاولون إقناع مصر بتوسيع مدى مهماتها فى المنطقة، عسكريا وسياسيا، لكن دون المساس بقدرة أمريكا على أن يكون لها القول الفصل فى كل ما يحدث بالشرق الأوسط. 11/9 والمهمة المستحيلة ظل نهج واشنطن فى التعاطى مع حكم حسنى مبارك متشعبا ومرتبكا أحيانا، كانت السى آى إيه تعتبر مصر حليفا لا يمكن الاستغناء عنه، وكان للبنتاجون علاقات طيبة مع الجيش المصرى، كما تشهد على ذلك «مناورات النجم الساطع». وعلى الرغم من ضغط مصر من أجل إقامة دولة فلسطينية، ظلت عازمة على كبح التنظيمات المعارضة مثل حماس. وعلى الجانب الآخر، بدأ الاقتصاد المصرى -وعلى الرغم من التقارير المستمرة عن النمو اللافت فى مجمل الناتج المحلى- بدا أنه غير قادر على حل مشكلة الذين يعانون من الفقر المدقع فى البلاد، والذين بلغ معدلهم ثلث عدد السكان، وكان يقال أحيانا إن هذا كان بسبب محاباة رجال القوات المسلحة والهبات الباهظة التى كانوا يتلقونها. علاوة على ذلك، وبدلا من تحقيق أى تقدم فى مسار الديمقراطية، غدت مصر فى ظل حكم مبارك دولة بوليسية، كما لم يُبْدِ هو أى دافع على تغيير أساليبه حتى على الرغم من أن تلك الأساليب كنت تستوعب طاقات كان من الممكن استغلالها للتحرك فى توجه أكثر إيجابية. المخلوع وفزاعة الإسلاميين كان مبارك حينما تحاول الولاياتالمتحدة دفعه باتجاه الإصلاحات السياسية، يستغل مخاوف الأمريكيين من فزاعة الإسلاميين، ويشير إلى ما حدث فى إيران وما حدث فى العراق بعد الحرب الأمريكية عليها ومحاولتها إقامة نظام ديمقراطى هناك. كان يقول إن صدام حسين على الرغم من أنه كان حاكما مستبدا، لكنه كان بمنزلة حائط صد للعرب ضد الإيرانيين. بعد صدمة هجمات 11/9 أثيرت تساؤلات كثيرة فى الولاياتالمتحدة حول المعونات العسكرية التى كان حكام الشرق الأوسط ممن لم تكن لديهم النية فى تغيير أساليبهم، يتلقونها من الولاياتالمتحدة، وحول جدوى تلك الاستراتيجية بعد أن انتهت الحرب الباردة ولم يعد للاتحاد السوفييتى وجود. علاوة على ذلك، قال هؤلاء المتسائلون إن الهدف الحقيقى من تزويد هؤلاء الحكام بالأسلحة الأمريكية لم يكن أبدا تشكيل جبهة ذات جدوى ضد الجيش الأحمر، بل كان الحفاظ على النظام الداخلى فى تلك الدول. بالطبع تم إقناع الكونجرس والجمهور بهذا بصفته جزءا من استراتيجية الردع التى كان الغرب يتبناها ضد موسكو، بمعنى أن هذا كان يؤدى إلى رفع معنويات الشعوب وحسها الوطنى؛ ما يعمل على الحيلولة دون انتشار التطرف الشيوعى أو الدينى ومشاعر الاستياء والغضب من الأوضاع السائدة. أخطار تهدد الأمن القومى أيضا عملت الولاياتالمتحدة قبل عام 1979 وبعده على دعم وجود توازن للقوى العسكرية فى المنطقة لصالح إسرائيل، لكن ليس بالدرجة التى تؤدى إلى احتمال نشوب حرب جديدة. أصبح الحفاظ على ذلك التوازن الرهيف الشغل الشاغل لصناع السياسة الأمريكيين إلى درجة غفلوا معها عن أخطار أخرى تهدد الأمن القومى الأمريكى والتى كانت تتنامى بسرعة أكبر من قدرة من كانوا يعملون على تسليم المعتقلين والمشتبه فيهم كى تُنتزَع منهم الاعترافات تحت التعذيب، على مواكبتها. قال الناقدون إن الولاياتالمتحدة كانت قد أمدت مصر بمعونات عسكرية بلغ مجمل قيمتها 50 مليار دولار وماذا كانت النتيجة؟ ذهب هؤلاء الناقدون إلى أن نتيجة دعم دكتاتوريات الشرق الأوسط كانت هجمات 11/9. ذكرت صحيفة «كريستيان ساينس مونيتور» أن قائد خاطفى الطائرات وأربعة منهم كانوا مصريين، وأن سياسات مبارك القمعية لم تعمل على وقف تنامى المتطرفين المتشددين، وأن زعمه بأن إرخاء القيود على المجتمع المصرى وانفتاحه يجلب الأخطار، لم يعد يقنع الأمريكيين، اليمينيين منهم واليساريين. هل الانتخابات مجرد دواء للعلل السياسية؟ لكن تلك الانتخابات أتت بعكس ما تشتهيه أمريكا؛ حيث فازت حماس، المنظمة التى تعتبرها واشنطن إرهابية والتى يسيطر عليها الإخوان المسلمون. لكن رايس رفضت تضمينات «أبو الغيط» التى أشارت إلى أن واشنطن أساءت الحكم على ما يمكن أن تأتى به تلك الانتخابات بتبنيها النهج التبسيطى بأن الانتخابات هى دواء لجميع العلل السياسية، بيد أن إجابتها بدت ألفاظا مجردة بل ومراوغة، ثم قالت فى خطاب لها بعد ذلك: «إن ما نشهده الآن هو آلام مخاض ولادة الشرق الأوسط الجديد. وأيا كان ما نفعله علينا أن نكون على يقين من أننا نضغط لإقامة الشرق الأوسط الجديد، وأننا لن نعود إلى الشرق الأوسط القديم». الإحباط الأخير كانت نتائج انتخابات عام 2006 فى غزة محبطة بدرجة أن الولاياتالمتحدة أرخت مطالباتها بالإصلاح الديمقراطى، وتلاشى خطاب بوش الذى ألقاه عام 2003 فى هوايتول بلندن، وانتقل التركيز مرة أخرى إلى العراق وسط مخاوف من خسارة الحرب، عمد فرانك ريكرياردون السفير الأمريكى بالقاهرة وقتئذ إلى التهرب من الإجابة على الأسئلة حول اعتقال أيمن نور بقوله إن السؤال الحقيقى ليس هو ما يعتقده الأمريكيون حول الموضوع، بل ما يعتقده المصريون أنفسهم، ثم أضاف: «أراهن على أننا لو وجهنا السؤال إلى مائة شخص لحصلنا على مائة إجابة مختلفة. وإذا كان هذا هو حال المصريين فإن ما آمله هو أن تغفروا للأمريكيين عدم فهمهم لتعقيدات هذا الموضوع»، ثم أتى بعد ذلك خطاب بوش بالمنتدى الاقتصادى الذى عقد بمدينة شرم الشيخ عام 2008. وبحسب ما قاله أحد كاتبى الخطاب، فإن مسودته بالبيت الأبيض طالبت بالإفراج عن أيمن نور بأسلوب حاد وقاطع، لكن ذلك الخطاب، تحول فى شرم الشيخ إلى محاضرة معتدلة اللهجة لم يأت بها ذكر لأيمن نور. الصراع مع واشنطن لخص حسام سويلم -وهو لواء مصرى متقاعد- جوهر الصراع مع واشنطن؛ حيث قال إن مصر تنظر إلى الدفاع عن سيناء بصفته مهمة الجيش الأساسية، وتظن أن رغبات الأمريكيين تتعلق بإسرائيل وليس بمكافحة القرصنة، أو أمن الحدود: «لا يجوز للولايات المتحدة أن تفرض علينا إعادة تشكيل جيشنا بالأسلوب الذى تريده والذى نعتقد نحن أنه يناسب إسرائيل ولا نريد نحن أن نفعل ما يناسب إسرائيل». بيد أنه كان ثمة آخرون يعتقدون أن المهمة الجوهرية للجيش المصرى كانت هى الحفاظ على بقاء النظام فى السلطة، وأن الخطاب حول أمن مصر فى مواجهة إسرائيل كان يناظر استخدام فزاعة الإخوان المسلمين ذريعة لعدم إجراء إصلاحات سياسية. اعتقدت السفيرة سكوبى أن ثمة حاجة ملحة لتقويم العلاقات بين البلدين وإعادتها إلى سابق عهدها، مثلما كان أوباما قد وعد بخصوص العلاقات مع روسيا، وربما مع إيران. بينت السفيرة أن «الخلافات المصرية-الأمريكية حول السرعة التى تجرى بها الإصلاحات السياسية وتوجهها، قد أدت إلى فتور العلاقات على الجانبين»، ثم أضافت: «إننا نعتقد أن الرئيس مبارك مهتم بزيارة واشنطن فى المستقبل القريب لإجراء مشاورات مع الرئيس أوباما، خاصة لمحاولة بدء ترميم العلاقات». المعايير المزدوجة تم الإعداد لدعوة مبارك لزيارة واشنطن، لكن أوباما استبق الزيارة بذهابه إلى القاهرة فى يونيو 2009. وفى واقع الأمر، كان أوباما قد هاتف مبارك فى اليوم التالى لمراسم تولية السلطة. ووفقا لما جاء فى خطاب للسفيرة سكوبى، فقد رحب الأمين العام للحزب الوطنى الديمقراطى بمصر بهذا الاتصال بصفته «مبادرة تعكس تغيرا فى سياسة الولاياتالمتحدة وتشير إلى أن الإدارة الأمريكية الجديدة حريصة على الاستماع لآراء أهم دولة فى الشرق الأوسط»، وقال إنه يأمل أن إيماءة أوباما تُضمر أيضا إشارة إلى أن «المعايير المزدوجة» التى تنتهجها الولاياتالمتحدة لدى تعاطيها مع إسرائيل والبلاد العربية قد انتهت. أُعلن عن خطاب أوباما بالقاهرة فى 4 يونيو 2009 على أنه رسالة إلى العالم الإسلامى. بدأ بإشارة يتملق بصفتها موطن المؤسستين العظيمتين للعالم الإسلامى ولتقدم مصر طوال القرن الأخير؛ حيث قال إنه فى «وجود هاتين السمتين فأنتم تمثلون التناغم بين التقاليد والتقدم»، وكانت هذه هى النتيجة التى مثلت عصب خطابه الذى دحض فيه القول بأن التغيرات الشاملة التى أتت بها الحداثة والعولمة لا بد أن ينظر إليها على أنها معادية لتقاليد الإسلام.. ثم ذكر إرث المخاوف والشكوك الذى بدأ منذ وقت طويل مع الحروب الصليبية و«الاستعمار الغربى الذى أنكر على كثير من المسلمين حقوقهم وفُرصهم فى الحياة الكريمة المثمرة»، وذكر أيضا أنه خلال الحرب الباردة «كان يتم التعامل، فى كثير من الأحيان، مع البلدان ذات الغالبية المسلمة على أنها بلاد تابعة مع تجاهل طموحاتها». أحداث سبتمبر لم يكن من الصعب تبين أن قوله هذا ينطوى على نقد موجه للسياسة الأمريكية والتى صاغها دين أتشسون وجون فوستر دالاس فى أعقاب ثورة 1952 والإطاحة بالملك فاروق. بيد أن أوباما مضى يوضح أن «أقلية ضئيلة من المسلمين استغلوا تراكم التوترات لينفذوا هجمات 11/9»، ومن ثم، فمن الضرورى إيجاد سبيل لإنهاء الوضع الذى مكّن هؤلاء «الذين يبذرون الكراهية بدلا من السلام، ويدعمون الصراع بدلا من التعاون الذى يساعد شعوبنا على إنجاز العدالة والازدهار». ثم أضاف أنه قد أتى إلى القاهرة سعيا إلى بداية جديدة بين الولاياتالمتحدة والعالم الإسلامى. وبالمقابل قال إن الحرب على العراق كانت اختيارا من جانب الولاياتالمتحدة فيما عبر عن اعتقاده أن الشعب العراقى ستتحسن أحواله «فى نهاية المطاف» بعد أن تخلص من دكتاتورية صدام حسين. كراهية مبارك للإخوان المسلمين مع الأخذ فى الاعتبار كراهية مبارك لأية تعاملات مع الإخوان المسلمين وعلى أى مستوى، فلا بد وأن يعجب المرء عما كان يعرفه عن «بعض العناصر» فى أفغانستان وعلى الوسيلة التى اعتقد أن بإمكانه مساعدة الولاياتالمتحدة من خلالها من أجل هزيمة طالبان وحلفائها. وعلى أية حال، فلم يأخذ أوباما بنصيحة مبارك، وبدلا من ذلك قام بإرسال قوة عسكرية أخرى قوامها أربعون ألف جندى ليرتفع عدد جنود الولاياتالمتحدة فى ذلك البلد المعروف باسم «مقبرة الإمبراطوريات» إلى 100 ألف جندى. وعد أوباما بأنه سيبدأ فى سحب القوات الأمريكية وإعادتهم إلى بلادهم فى يوليو 2011، لكن مبارك كان قد رحل قبل هذا التاريخ بأشهر. كانت الثورة التى أجبرت مبارك على التنحى فى 11 فبراير 2011 قد بدأت فى تونس فى 17 ديسمبر 2010 حينما «أشعل شاب عاطل عن العمل النيران فى نفسه نتيجة ليأسه لدى مصادرة الشرطة بعض البضائع الرخيصة التى كان يعرضها على حامل غير مرخص»، ثم توفى بوعزيزى بعد ذلك بثلاثة أسابيع فى 3 يناير 2011. ثورة الياسمين ألهمت فعلته اليائسة بعض الشباب الآخرين الذين حاولوا هم أيضا الانتحار، فيما انتشرت الاحتجاجات والتظاهرات بدءا من البلدات الصغيرة حتى عمت كبريات المدن فى جميع أنحاء تونس، وأطلقت بذلك ما سُمى بثورة الياسمين. بعد أحد عشر يوما من وفاة بوعزيزى، أُجبر زين العابدين بن على، أحد أعتى الحكام فى الوطن العربى والذى كان قد استمر فى الحكم لمدة طويلة، على الاستقالة. شوارع شمال إفريقيا الراكدة سياسيًا أما فى القاهرة، فقد شككت مراسلة «تايم مجازين» فى إمكانية انتشار ثورة الياسمين، وقالت إن الإعلام المصرى أورد تقارير عن بعض محاولات عدد من الشباب المصريين للانتحار، ونجح بعضهم كجزء من موجة محاكاة لتونس اجتاحت «شوارع شمال إفريقيا الراكدة سياسيا. أما فى مصر فلا تذهب الأمور أبعد من ذلك، هذا على الرغم من أن نسبة من يعيشون تحت خط الفقر فى مصر أكبر كثيرا من مثيلتها فى تونس، لكن حتى فى وجود نظام يعرف عن التعذيب أكثر مما يعرفه عن الخدمات العامة، ويبتلع الأرباح المحلية قبل أن تصل إلى الطبقات الدنيا، فإن الشعور السائد يبدو أنه نوع من الاستسلام السياسى والاعتقاد بعدم جدوى الاحتجاجات والتظاهرات». الجيش الورقة الرابحة بتونس فى تونس، كان الجيش قد انضم إلى المحتجين والمتظاهرين فى اللحظة الحاسمة. أما فى مصر، فقد عُرف عن الجيش ولاؤه لمبارك. وعلى الرغم من أنه كان ثمة دعوات للخروج للاحتجاج والتظاهر يوم 25 يناير، فإن أحدا لم يتوقع الكثير من تلك الدعوة. جمعة الغضب لكن قرار المصريين كان مختلفا. فى 25 يناير 2011 استجاب الآلاف للدعوة وبعد أيام -أى فى «جمعة الغضب»- تجمع الملايين فى ميدان التحرير، فيما حدثت تجمعات وتظاهرات فى أنحاء أخرى. وأدى ذلك إلى اندلاع أولى الصدامات بين المتظاهرين والشرطة. وكما كان متوقعا، أصدرت وزارة الداخلية بيانا تلقى فيه بالمسئولية على الإخوان المسلمين، بيد أن تكتيكات الوزارة التى كانت قد نجحت فى الماضى فشلت هذه المرة. سرعان ما انتشرت الاتصالات بين الأفراد والمجموعات عبر تويتر وفيس بوك، وغالبيتهم من الشباب الذين يشكلون نسبة عالية من سكان الشرق الأوسط، ويحرصون على امتلاك «الموبايلات». ومثلما كانت فيتنام أول حرب تُبث بالأوان على شاشات التليفزيون، فقد لعبت مواقع التواصل الاجتماعى مثل «تويتر» دورا مهما فى الثورة المصرية. فى اليوم الثانى للتظاهرات، قال روبرت جيبس المسئول الصحفى بالبيت الأبيض: «إنه ينبغى للحكومة المصرية الاستجابة للشعب من خلال اعترافها بحقوقهم العالمية الشاملة». إلى ذلك أضاف جو بايدن نائب الرئيس القول بأن على مبارك أن «يتحرك باتجاه الاستجابة لبعض احتياجات الناس هناك» وحينما ألح عليه جيم لِرر من تليفزيون PBS ليقرر ما إن كان يعتقد بأن الوقت قد حان لرحيل مبارك، أجاب بايدن بمنطق تبرير المقامرة بخمسين مليار دولار من المعونة العسكرية: «لقد ظل مبارك حليفا لنا فى أمور عديدة، وتحمل مسئولية كبيرة فى تطبيع علاقات مصر مع إسرائيل.. لا يمكننى أن أدعوه دكتاتورا». لماذا يكره بوش البرادعى؟ فى 27 يناير 2011، وصل محمد البرادعى الرئيس السابق لهيئة الطاقة الذرية -والذى كان حاول أن يمنح فريقه المنوط به التفتيش على أسلحة الدمار الشامل بالعراق، مزيدا من الوقت [لاستكمال مهمته] قبل شن الحرب، الأمر الذى أثار غضب بوش- وصل إلى مصر داعيا إلى التغيير وقال إنه مستعد لقيادة المرحلة الانتقالية، ثم وجه النقد إلى واشنطن مرة أخرى، ولم يكن ذلك بسبب اندفاعها فى الإجراءات كما فى حالة العراق، بل لترددها وغموض موقفها، أعلن البرادعى على التليفزيون الأمريكى أنه «من الأفضل لأوباما ألا يكون آخر من يقول لمبارك: لقد حان وقت رحيلك». اللحظة المشتعلة لم يقل أوباما لمبارك إن عليه أن يرحل -على الأقل قبل مرور بعض الوقت- لكنه حثه فى مكالمة هاتفية استمرت ثلاثين دقيقة، على تنفيذ الإصلاحات التى كان قد وعد بها فى خطابه للمتظاهرين الذى أعلن فيه إقالته للحكومة، وأخبره أن اللحظة المشتعلة تلك يجب أن تتحول إلى لحظة واعدة، وأن الأيام التالية ستكون صعبة لكن الولاياتالمتحدة ستساند حقوق الشعب المصرى و«تعمل مع حكومته سعيا إلى مستقبل واعد أكثر عدالة وحرية». أما جيبس المسئول الصحفى بالبيت الأبيض فقد أومأ إلى أن واشنطن قد توقف المعونة العسكرية. وبحسب ما جاء بمقال فى «لوس أنجلوس تايمز» فقد علق إدوارد ووكر السفير السابق بالقاهرة بالقول إن «هذا تحذير للجيش، أى أنهم يقولون لهم: احترسوا وإلا نزعنا المقبس». تنازلات مبارك وفيما تواصلت التظاهرات وأصبح ميدان التحرير «استعراضا واقعيا» ذا شعبية واسعة للمشاهدين فى جميع تليفزيونات العالم؛ أعلن مبارك مزيدا من التنازلات لكنه تشبث بالسلطة. ولأول مرة عين نائبا له هو عمر سليمان، ثم قال إنه لم يكن ينوى هو أو ابنه الترشح لانتخابات الرئاسة التى كان من المقرر لها أن تجرى فى سبتمبر، لكنه رفض التخلى عن منصبه حتى وقتئذ. وعد عمر سليمان بإجراء حوار مع المتظاهرين لكنه حذر من أنه ليس بإمكان الحكومة أن تسمح باستمرار ذلك الوضع، وطلب من المتظاهرين إخلاء الميدان. كان بين الأصوات الداعية لرحيل مبارك فى ميدان التحرير الممثل المصرى العالمى عمر الشريف، والراحل خالد جمال عبد الناصر نجل قائد ثورة 1952. خطابات البطة العرجاء.. بين الغرور والكبرياء جمعت خطابات مبارك إلى المتظاهرين بين لهجة الاستعطاف ورثاء الذات، وبين الغرور والتكبر؛ ما رفع سقف مطالب الجماهير وزاد صخبهم. قال فى تبرير منه لعدم تنحيه حتى سبتمبر إن حسنى مبارك الذى يخاطبهم اليوم يشعر بالفخر بإنجازاته طوال السنوات التى خدم فيها مصر وشعبها. قال إن مصر بلده؛ حيث عاش وقاتل ودافع عن أرضها وسيادتها وإنه سيموت على أرضها ويدفن فيها. أعلن البرادعى فى تعليق له على الخطاب: «إنه خدعة من دكتاتور يرفض الاستماع إلى صوت الشعب ويرحل، وإن لم يفعل فلن يتحول فقط إلى بطة عرجاء كرئيس، بل إلى رجل يسير ميتا». ثم وصلت إلى التحرير شاحنات محملة بالبلطجية المؤجرين ورجال يمتطون الخيول والجمال وهاجموا المتظاهرين الذين ازدادت أعدادهم وتزايد زخمهم مع سقوط الضحايا. أيضا كان من الواضح أن ثمة تنافسا بين واشنطن ومبارك على ولاء الجيش المصرى؛ حيث مضى أوباما ومساعدوه يهيلون المديح على الجيش لما تحلى به من ضبط النفس وعدم إطلاقه النار على المتظاهرين. ويحتمل أن يكون هذا [انصياع الجيش لرغبة الأمريكيين بعدم إطلاق النار] هو العائد المجزى لرهان الأمريكيين بالخمسين مليار دولار «مجموع المعونة العسكرية لمصر»، والذى كان عائدا سياسيا لا عسكريا، ومثّل التداخل بين البنتاجون والجيش المصرى طوال السنوات الثلاثين من حكم مبارك. وفى واقع الأمر فقد كان هذا هو هدف الولاياتالمتحدة منذ قيام ثورة 1952، أى قيام نسخة ما بعد كلونيالية «من الفيلق الغربى» لا يقودها شخص مثل جلوب باشا (القائد البريطانى للفيلق العربى)، بل قوة عسكرية تتسق مع الأهداف الأمريكية وتعمل على الحفاظ على مصالح الولاياتالمتحدة. الشعب المصرى يفتقد ثقافة الديمقراطية ناشد أوباما وبايدن عمر سليمان، وكجزء من العملية الديمقراطية، إنهاء العمل بقانون الطوارئ الذى كان قد استمر لمدة ثلاثين عاما واعُتقل الكثيرون بمقتضاه. لكن سليمان، وفى تصريح علنى، رفض هذا الطلب، وأعلن أن الشعب المصرى يفتقد ثقافة الديمقراطية، وأنه غير مُعد لإنهاء حالة الطوارئ فورا. رد عليه روبرت جيبس مسئول البيت الأبيض لشئون الصحافة موبخا إياه وقال: «لا أعتقد أن هذا القول (يلائم) المطالب التقدمية والحرية التى تطالب بها الجماهير»، وأضاف أن الخطر الأعظم للاستقرار يأتى من رفض الحكومة اتخاذ أى إجراءات تقدمية. بعد ذلك، أعلن سليمان على شاشات التليفزيون المصرى أن مبارك اختار لجنة لإجراء تعديلات دستورية، وأنه أصدر الأوامر بعدم محاكمة المتظاهرين الذين تم القبض عليهم، وعدم مصادرة حقهم فى حرية التعبير، وقال أيضا إن مبارك قد اجتمع بقادة المعارضة للتوصل إلى تشكيل لجنة لوضع تعديلات فى أمور أخرى، وإنه يرحب بهذه الخطوات التى تتخذ من أجل «المصالحة الوطنية»؛ لأنها «تضع أقدامنا على أول الطريق الصحيح للخروج من الأزمة الراهنة». تنحى المخلوع فى يوم الثلاثاء 10 فبراير، نزل اللواء حسن الروينى إلى ميدان التحرير وتجول فيه وأعلن أنه سيتم تنفيذ جميع مطالب المتظاهرين فى ذاك اليوم. أما فى واشنطن، فقد أخبر ليون بانيتا مدير السى آى إيه لجنة من الكونجرس أنه «ثمة احتمال قوى لتخلى مبارك عن السلطة هذا المساء». وعلى الرغم من تصاعد التوقعات بأن هذا سيحدث، فإن مبارك ظهر مرة أخرى على شاشات التليفزيون وهو يقف بجوار العلم المصرى وقال إنه استمع للمتظاهرين وإنه سيُجرى تحقيقات فى مقتل من يقدر عددهم بثلاثمائة شهيد، وإنه يتحدث إليهم كوالد يتحدث إلى أبنائه، وإن دم الشهداء لن يذهب هدرا وسيحاسب من فعلوا ذلك.. أعلن أنه سينقل معظم سلطاته إلى نائبه عمر سليمان، وأنه سيستمر فى موقعه حتى انتخابات شهر سبتمبر ليتأكد من نزاهتها وشفافيتها. عمر سليمان.. الحاكم الفعلى أعلن المجلس الأعلى للقوات المسلحة، الذى كان وقتئذ قد أصبح الحاكم الفعلى لمصر تحت قيادة عمر سليمان، أنه يوافق على موقف مبارك، لكنه قال أيضا إنه سيلغى قانون الطوارئ بمجرد أن يسود الهدوء الشوارع المصرية. لكن جماهير المتظاهرين الغفيرة، فى جميع ميادين مصر، وليس فى ميدان التحرير فقط، مضت تطالب بسقوط مبارك على الفور. اندفعت حشود المتظاهرين بالتحرير وأحاطت بمبنى الإذاعة والتليفزيون، ووقف الجنود يراقبونهم، فيما مضت الجموع تهتف بأن الجيش جيش الشعب لا جيش مبارك. فى واشنطن، مضى بانيتا ومساعدوه يوضحون فى تلك الأثناء أن ما قاله المدير عن تخلى مبارك عن السلطة لم يكن على أساس من المعلومات بل على أساس التقارير الصحفية، لكن لِمَ لم يكن السى آى إيه على علم بمجريات الأمور؟! أوضح بانيتا مرة أخرى أن السى آى إيه، ومنذ أحداث 11/9، قد ظل يتعرض للهجوم والنقد الشرس لفشله فى استباق الذين هاجموا مركز التجارة العالمى والبنتاجون ومنعهم من ذلك. وبعد ذلك، كانت التقارير الزائفة التى أعطاها جورج تنت المدير السابق للسى آى إيه، لجورج دبليو بوش عن ترسانة أسلحة الدمار الشامل التى زعم أن صدام حسين يمتلكها. بيد أن بانيتا مضى يصر على أن وكالته كانت قد أمدت الإدارة الأمريكية بتحذيرات عن إمكانية الإطاحة بالحكومة المصرية؛ هذا فيما اعترف بأن أداء وكالته كان يجب أن يكون أفضل من حيث اكتشاف مكامن الخطر المحددة على الحكومات، ورصد دور الإنترنت فى نشر الاحتجاجات وإخضاعها للرقابة. أتى خطاب مبارك برد سريع من الرئيس أوباما: «لقد تم إبلاغ الشعب المصرى بأنه سيكون ثمة نقل للسلطة، لكن لم يتضح حتى الآن ما إن كان ذلك النقل سيكون فوريا وذا معنى وكافيا»، أى أنه -وللمرة الأولى- أصدرت الولاياتالمتحدة نداء مباشرا لمبارك كى يستقيل. وصل هذا النداء إلى سليمان واستوعبه. وبحسب ما قاله «مسئول» أمريكى لم يذكر اسمه للصحفيين، فقد أجبر تصريح أوباما سليمان على الانضمام للجيش فى مطالبته مبارك بالرحيل، وقال: «إن سليمان كان قد ظل يحاول الحفاظ على التوازن الدقيق بين دعمه لمبارك فيما كان يحاول أيضا إضفاء نوع من التعقل على المعادلة، لكن بنهاية اليوم أصبح من الواضح له إن استمرار هذا الموقف لم يعد ممكنا». وفى الحادية عشرة صباحا بتوقيت واشنطن، وقف سليمان شاحبا أمام كاميرات التليفزيون ليعلن أنه «قرر الرئيس مبارك تخليه عن منصب رئيس الجمهورية وكلف المجلس الأعلى للقوات المسلحة بإدارة شئون البلاد». قال الرئيس أوباما: «ليس هذا نهاية التحول فى مصر.. إنه البداية». وكان بالفعل بداية شىء أكبر كثيرا، ولم يكن بوسع أحد التنبؤ بنهايته.