أفْتَرِض أنَّ رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس قد فكَّر في، وسعى إلى، طلب توضيح من الرئيس الإسرائيلي شمعون بيريز في شأن ما نُسِب إليه من تصريحات صحافية جاء فيها أنْ لا أمل لديه في التوصل إلى سلام ، أو اتفاق سلام ، مع الفلسطينيين ، في عهد الرئيس عباس ؛ لأسباب فلسطينية "سلبية" عدة ، في مقدَّمها أنَّ الرئيس عباس فاقِدٌ للشرعية بين أبناء شعبه ، وعاجز عن الوفاء بما يلتزم به من اتفاقات مع إسرائيل ، وأنَّ الفلسطينيين منقسمون على أنفسهم! وافْتَرِض، أيضاً، أنَّ اعتصام بيريز ، وقتاً طويلاً ، بحبل الصمت ، أي عدم مسارعته إلى نفي تلك الأقوال المنسوبة إليه ، هو خير دليل على أنَّ هذا الزعيم الإسرائيلي ، الذي يُنْظَر إليه ، أي ننظر نحن إليه ، على أنَّه آخر "حمامة سلام كبيرة" في إسرائيل ، قد قال ما قال ، وأراد قول ما قال ، وإنْ زَعَم ، بعد ذلك، أنَّه لم يَقُلْ ما قال. إنَّ أحداً من الفلسطينيين (وهذا يشمل الرئيس عباس نفسه) لا يعتقد أنَّ لدى الشعب الفلسطيني الآن قائداً سياسياً تاريخياً بأهمية ووزن الزعيم ياسر عرفات الذي قُتِل غيلةً وغدراً، والذي، على ما تمتَّع به من سلطة لا نظير لها للتفاوض، وعقد الاتفاقات ، مع الإسرائيليين ، تضافرت إسرائيل والولاياتالمتحدة على التشكيك في شرعيته، وأهليته لتمثيل شعبه ، حتى أنَّ الرئيس بوش قالها ، غير مرَّة ، إنَّ عرفات قد خان مصالح شعبه، وما عاد، بالتالي، جديراً بتمثيل الفلسطينيين في مفاوضات السلام. لقد وددتُ التذكير بذلك حتى أقيم الدليل على أنَّ أيَّ قائد فلسطيني لا يقود شعبه إلى مفاوضات سلام ، تتَّخِذ من التفريط ، ومن مزيدٍ من التفريط، في الحقوق القومية للشعب الفلسطيني ، وفي مصالحه الحقيقية والعليا ، وقوداً لها تقول إسرائيل في شرعيته ما قالته في عباس، وما قالته، من قبل ، في عرفات ، وكأنَّ رؤيته لمصالح شعبه بعيون إسرائيلية هي ما تكسبه شرعية وقوَّة التمثيل للفلسطينيين! بيريز تأكَّد لديه، وثَبُت ، أنْ لا أمل في اتِّخاذ الرئيس عباس جسراً للحلول الإسرائيلية للمشكلة القومية للشعب الفلسطيني ، فقرَّر نعي السلام في هذه الطريقة ، أي بتحميل "ضعف عباس"، و"انقسام الفلسطينيين"، مسؤولية موت السلام، الذي بشَّر "أنابوليس" بقرب ولادته. ومن يستمع إلى بيريز وهو يتحدَّث عن "الشرعية"، و"الأوزان"، و"القدرة التفاوضية"، يخال أنَّ لدى إسرائيل رئيس وزراء أقوى من عباس، ويحظى بشرعية وشعبية بين أبناء شعبه تفوقان ما يحظى بهما عباس، وأنَّ إسرائيل لا ينقصها لتوقيع اتفاق سلام مع الفلسطينيين سوى أن يملك عباس من سلطان التفاوض وعقد الاتفاقات ما يملكه اولمرت، الذي مُذْ خَلَف شارون وهو في "غيبوبة سياسية"، عمَّقتها كثيراً هزيمته في حرب يوليو، وافتضاح فساده. ومن يستمع إليه وهو يتحدَّث عن "انقسام الفلسطينيين"، بوصفه عقبة كبرى تواجه السائرين على "طريق أنابوليس"، يخال، أيضاً، أنَّ بيريز يكاد أن يدعو إلى وحدة الفلسطينيين بوصفها قوَّة تذليل للعقبات من طريق السلام؛ مع أنَّ أحداً من العقلاء لا يمكنه إنكار حقيقة أنَّ السلام الذي تريده إسرائيل يتَّخِذ من "الانقسام الفلسطيني"، ومن كل ما يوسِّعه ويعمِّقه ويديمه، وقوداً له. ولكنَّ بيريز ليس بقليل الذكاء حتى يعني، في كلامه عن "الانقسام الفلسطيني"، هذا المعنى، فالرئيس الإسرائيلي إنَّما يريد للفلسطينيين أن يتَّحِدوا ضدَّ أنفسهم، أي ضدَّ حقوقهم القومية، ومصالحهم الحقيقية، فيدخلون في السلام مع إسرائيل أفواجاً، أي أغناماً. إنَّه يريد لهم "وحدةً"، تُصْنَع ب "الحديد والنار"، على أن يأتي "الحديد" من الولاياتالمتحدة، و"النار" من إسرائيل، فالرئيس الإسرائيلي اسْتُفِزَّت مشاعره كثيراً إذ اتَّخّذ الرئيس عباس من "مبادرته للحوار" طريقاً إلى إنهاء "الانقسام الفلسطيني"، والتأسيس لوحدة فلسطينية، يمكنها تلبية الشروط ل "المجدي" من "المفاوضات" و"المقاومة" في آن. حتى "اتفاق التهدئة"، لا تفهمه إسرائيل، ولا تُنفِّذه، إلاَّ بوصفه "اتفاقاً" لإدامة وتنمية "الانقسام الفلسطيني"، وكأنَّها لا تفاوض من أجل السلام إلاَّ لجعل الضفة الغربية أكثر انفصالاً عن قطاع غزة، ولا تفاوض من أجل التهدئة إلاَّ لجعل قطاع غزة أكثر انفصالاً عن الضفة الغربية! "سلام أنابوليس" مات؛ بل وُلِد ميتاً؛ والعمل جارٍ الآن على قدم وساق لإعلان موته، فدفنه. وها هو بيريز يُنْجِز بعضاً من هذه المهمة، بتزويره الأسباب الحقيقية لهذا الموت، فلولا "ضعف عباس"، و"انقسام الفلسطينيين"، لبرَّ الرئيس بوش بوعده، ولغادر البيت الأبيض تاركاً للفلسطينيين وإسرائيل سلاماً ينمو جيلاً بعد جيل!