رغم الحزم الظاهري الذي يتعامل به رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان، باعتماده حديث المؤامرة والمناورة ضدّ المناوئين له ولحكومته، لم ينجح الرجل في تحصين معسكره الداخلي، فبعد استقالة عدد من الوزراء ثم النواب من حزبه في البرلمان، يبدو أن الوضع مرشح لمزيد من التصعيد، بعد انشقاق غير معلن لشخصية مهمة في فسيفساء الحزب الحاكم، حزب العدالة والتنمية، في شخص رئيس الجمهورية عبد الله غول. حيث أكدت الوكالات بأن تصريحات غول بداية التباعد بين الحليفين السابقين عبد الله غول: لا يوجد في تركيا دولة موازية أو دولة داخل الدولة، كما يدعي البعض الكاتب التركي علي بولاج: تحت حكم العدالة والتنمية كانت تركيا مستعدة لتلبية الخيارات المطروحة دولياً انقلب كل شيء رأساً على عقبٍ، بعد الفشل في قراءة تحولات العالم العربي، وبسبب الثقة المفرطة والمزيفة في الذات، أو”مصطلح العثمانية الجديدة”الذي يفضح أطماع تركيا في الهيمنة يُعتبر غول، في نظر الكثيرين العقل المدبر في الثنائي الحاكم في تركيا، وإن كان الشخصية الأقل ظهوراً وتوهجاً، لكنه حسب العارفين بمطبخ حزب العدالة والتنمية والحركة المنسلخة عن حزب الرفاه ثم الفضيلة بقيادة نجم الدين اربكان، يعد المخطط الإستراتيجي للحزب، مقابل الحضور الكاريزمي لأردوغان. ولكن الموقف الأخير المفاجئ للرئيس التركي الحليف القوي لأردوغان، قد يخلط أوراق المشهد السياسي ويكشف عن تصدع مهم في أجنحة العدالة والتنمية وفي أنقرة عموماً التي تعيش على وقع اقتراب الانتخابات البلدية والرئاسية في 2014 والانتخابات العامة في2015، والتي سيترشح لها أردوغان بعد تعديل الدستور وتوسيع صلاحيات الرئيس ليضمن بقاءه في السلطة في أنقرة، سنوات إضافية. لكن في الوقت الذي يتعرض فيه الحكم التركي، لعاصفة انتقادات داخلية وخارجية بعد فضيحة الفساد، وبسبب الممارسة الاستبدادية الصريحة لأردوغان الذي تمترس وراء “خطاب المؤامرة” وإنكار الوقائع والتحريض على المناوئين، سدّد أقرب حليف صفعة قوية لنظرية المؤامرة الأردوغانية، فكشف بذلك بداية التباين بين رأسي الحكم التركي الحالي، وأطلق كرة الثلج الصغيرة في رحلة تدحرج مرشحة للتضخم ولو بعد وقت. وكان الحديث الذي أدلى به عبد الله غول الجمعة بمثابة الصاعق الذي سيفجّر الأردوغانية من الداخل، مثلما فجر أردوغان وغول الرفاه والفضيلة. وفي حديثه لقناة “خبر تُرك” التركية الجمعة، شدّد غول على”معاقبة من تثبت جريمته باستحلال مال الشعب وقبول الرشوة “، وقطع الرئيس التركي مع أردوغان بطريقة ربما تكون نهائية فقال “لا يوجد في تركيا دولة موازية أو دولة داخل الدولة، كما يدعي البعض”. إن هذه الجملة البسيطة هي التي أظهرت الرجل يعتمد كلاماً “محترماً وعقلانياً” بصفته رئيس المجلس الأعلى للقضاء، ولكن أيضاً لأنه يجعله على طرف نقيض مع شعبوية صنوه أردوغان، الذي اتهم القضاء بالتورط في المؤامرة والدسائس. وحسم الرئيس التركي أمره عندما قال “لا علاقة بين التحقيقات التي تجريها النيابة العامة في إسطنبول حول قضية الفساد، لا من قريب أو بعيد بأحداث متنزه غيزي بميدان تقسيم في يونيو (حزيران)، كما يزعم البعض”، والبعض هنا معروف بالصفة والاسم، رجب طيب أردوغان. وإذا كانت الرسالة الموجهة إلى أردوغان والماكينة الدعائية التابعة له جلية وبيّنة، إلا أنها تتجه أيضاً إلى العالم الخارجي والرأي العام التركي، مفادها أن أردوغان ليس صوت تركيا الوحيد، وتؤشر الرسالة ربّما كذلك على بداية عصر ما بعد أردوغان. وفي مثل هذه الأزمة الخطيرة التي يمرّ بها الحكم التركي، تكثر الأسئلة حول مستقبل التجربة التركية (التجربة النموذجية الناجحة) أو البديل العملي المثالي في العالم العربي الإسلامي. واعتماداً على تحاليل كثيرة من خارج المنطقة التركية، التي تمتد حتى أقاليم في روسياوإيران وخاصة الصين، ومن تركيا نفسها ومن داخل التوجه الإخواني المعدّل الذي يمثّله “العدالة والتنمية” ووجهه الإعلامي أردوغان، فإن الذي يحصل اليوم هو دفن التجربة التركية الأردوغانية. لفهم الصعود ثم الاندحار التركي، يمكن التعويل على محلّلين أتراك مثل علي بولاج، أبرز كتّاب صحيفة “زمان”، والمقرب من الدوائر الإسلامية التركية، الذي عرض في مقال نشره على موقع “الملف التركي” خلفيات صعود وانهيار الأردوغانية وتجربته في الحكم. يلخص بولاج صعود أردوغان في الصفقة التي يسميها “بسياسة التوافق” مع القوى الكبرى أمريكا والاتحاد الأوربي وإسرائيل، ومع البيروقراطية العسكرية والمدنية في تركيا، وأخيراً مع رؤوس الأموال. وانطلقت تجربة أردوغان على أساس أن “أمريكا والغرب كانا يتجهان ناحية الشرق الأقصى، حيث كانا ولا يزالان يتوقعان صراعات وحروب”، ولما كان ترك الشرق الأوسط بالنسبة إليهما “يُشكل فراغاً”، كانت تركيا تحت حكم العدالة والتنمية مستعدة لتلبية الخيارات المطروحة. وتمثل الأول في خيار المحافظين الجدد ب”استخدام القوة لترسيخ النظام في المنطقة، أما الثاني وكان خيار الحزب الديمقراطي، فسعى إلى تغيير المنطقة بالقوة الناعمة مثل الحركة النسائية ومؤسسات المجتمع المدني والديمقراطية والفلسفة الليبرالية والتعليم والمسلسلات وغيرها”. ويضيف الكاتب “لم يكن بمقدور أحد أن يُنظم المنطقة وفق المطالب الثلاثة، ضمان مكانة اسرائيل دولة إقليمية مستقرة وتأمين مصادر النفط ومنع الراديكاليين من الوصول إلى السلطة، سوى تركياوإيران ومصر. فتسلمت تركيا المناقصة شرط عدم الدخول في منافسة مع إيران، خشية تقويتها وتطوير نفوذها”. ويضيف الكاتب “كانت الخطة تقضي بأن تستقطب تركياإيران إليها، وأن تُزيل العقبات مع سوريا بما يقرّبها من الغرب، ثم تسير جنباً إلى جنب مع مصر لوضع المنطقة على السكّة المنشودة”. ولكن حسابات الحقل لم توافق حسابات البيدر، في ظل الصفعة التي تلقتها تركيا وفي ظل إصرارها على ما يسميه الكاتب “بالغرور في الثقة بالنفس”. ويمثل الجانب الاقتصادي أبرز صور هذا البعد، إذ يتشدق الإسلاميون “بالنجاح الاقتصادي التركي” بفضل حكمة العدالة والتنمية، والواقع أن أساس الإصلاح الاقتصادي، الذي بدأ يعتريه الوهن منذ بضع سنوات، من صنع وزير المالية والاقتصاد التركي وقت الأزمة الكبرى في 1997 كمال درويش المسؤول السابق الكبير بمؤسسات مالية دولية كبرى. ويقول الكاتب “أعلن حزب أردوغان عن ولائه لخطة كمال درويش الاقتصادية وخريطة طريق الاتحاد الأوربي في الإصلاح والتعديل” السياسي، ما أدّى “بمسؤولي الدول الأوروبية للاصطفاف في طوابير للقاء السيد أردوغان”. وتبع ذلك مكافأة بطل هذا السيناريو، تركيا بضخّ سيولة كبيرة في اقتصادها وتعزيز مكانتها الدولية ، إلى جانب الضغط على الاتحاد الأوروبي للقبول بعضويتها، وتحييد المؤسسة العسكرية ولو جزئياً”. المأزق ويقول الكاتب بولاج: “في 2011 انقلب كل شيء رأساً على عقبٍ، بسبب فشل السياسة الخارجية التركية في قراءة التحولات في العالم العربي، وبسبب الثقة المفرطة والمزيفة في الذات، أومصطلح العثمانية الجديدة الذي يفضح رغبة في إعادة الهيمنة على الشرق الأوسط العربي و في إحياء الصراع مع إيران بما يُذكّر بالصراع العثماني الصفوي”، وهو ما لا يمكن القبول به كما يقول الكاتب “لا من قبل الذين ساندوا المخطط التركي في البداية، ولا خاصة من قبل الذين اكتشفوا البعد الحقيقي للتجربة التركية القائمة ومنذ البداية على خطأ في الرؤية”.