فى حديث دار بينى وبين الكاتب الفرنسى روبير سوليه، قلت للكاتب المرموق، الذى كان لسنوات أحد رؤساء التحرير المسؤولين بجريدة «لوموند» الغراء، إن حال البلاد الذى يراه الآن والذى يتسم بغياب الأمن والاستقرار فى الشارع كما فى نفوس الناس لن ينصلح إلا بإجراء الانتخابات الرئاسية. فلا شك أن الدستور الدائم الجديد الذى سيحكمنا ربما لبقية القرن الحالى يفوق فى أهميته الانتخابات الرئاسية والبرلمانية معاً، لكن انتخابات الرئاسة وحدها هى التى ستعيد الاستقرار المفتقد، فمصر أصبحت الآن بعد سقوط رأس النظام القديم بلا رأس والدولة صارت بلا قيادة رسمية، طبعاً هناك من يقوم الآن مقام الرأس ومن يحكم فى موقع القيادة، لكن ذلك وضع انتقالى مؤقت يؤكد المجلس العسكرى الذى تفضل بالقيام بهذه المهمة أن مهمته مؤقتة، وأن إدارته لأمور البلاد غير دائمة. إن من طبيعة المراحل الانتقالية والأوضاع المؤقتة أنها لا تبعث على الاستقرار، بل قد تؤجج مشاعر التوتر، خاصة إذا كانت الخطوات المقبلة غير واضحة ولا مؤكدة، فلا أحد يعرف حتى الآن إلى متى تستمر هذه المرحلة الانتقالية، ولا أحد يعرف حتى الآن إن كان الدستور سيتم وضعه قبل انتخابات الرئاسة أم بعدها؟ ولا أحد يعرف حتى الآن إن كانت الانتخابات البرلمانية ستجرى بنظام القائمة، أم بالنظام الفردى، أم بالاثنين معاً(!!) لذلك تبقى الانتخابات الرئاسية هى الخطوة الوحيدة محددة المعالم فيما يتعلق بنظام إجرائها أو بالمرشحين لها وبرامجهم، وهى لن تتطلب من الإجراءات أكثر مما تطلبه الاستفتاء الأخير، لكنها ستساهم بلا شك فى بعث الطمأنينة فى النفوس وستعطى إحساسا بأننا بدأنا نعود إلى الحياة الطبيعية التى تمكننا من استكمال إجراءات إعادة بناء الدولة التى تأخرت طويلاً. قال «سوليه» المولود بمصر والذى لم يغادرها إلا فى سن ال18: لكن البعض يخشون من أن يصبح الرئيس الجديد فرعوناً آخر! قلت: لقد سقطت بسقوط الدستور القديم كل المواد التى كانت تمنح الرئيس سلطات فرعونية، والتى كانت تحول دون محاسبته، ثم إن التاريخ لا يعود إلى الوراء ومصر التى خرجت إلى ميدان التحرير لإسقاط الفرعون الذى حكم بالحديد والنار 30 عاماً، لم تقدم دماء الشهداء الغالية من أجل أن تولى فرعوناً جديداً. كان هذا الحديث فى القاهرة منذ عدة أسابيع وكان سوليه فى زيارة لمصر فى إطار وضعه كتاباً جديداً عن ثورة 25 يناير ركز فيه على وقائع الأيام ال18 التى غيرت تاريخ مصر الحديث، وأثرت فى بقية الوطن العربى، وفى زيارة سريعة قمت بها إلى فرنسا فى الأسبوع الماضى أهدانى روبير سوليه كتابه الذى كان قد صدر لتوه وكان يحمل اسم «الفرعون الذى سقط» Le pharaon renverse وقد ذكرنى عنوان الكتاب بالحديث الذى دار بيننا فى القاهرة، كما ذكرنى بأن حديثنا عن الانتخابات الرئاسية تطرق إلى قول سوليه «إنه وجد بين المصريين قبولاً كبيراً لعمرو موسى الذى أبعده النظام السابق بسبب الخلافات السياسية المتزايدة بينه وبين رئيس الجمهورية، وأن الشعب انحاز آنذاك إلى جانب وزير الخارجية»، حيث ذكر الكاتب الفرنسى الكبير فى كتابه أن موسى نزل إلى ميدان التحرير متحدياً الطبيعة الدبلوماسية لمنصبه كأمين عام لجامعة الدول العربية بعد أن كان قد حذر القادة العرب فى آخر قمة عربية من غضب الجماهير. وقلت لسوليه إن عمرو موسى نزل إلى التحرير فى اليوم نفسه الذى ساد فيه الاعتقاد بين المتظاهرين بأن الطائرات التى ظهرت منذ الصباح فى السماء ستقوم فى ذلك اليوم بضرب الميدان، فقال إن أعداءه يدَّعون أنه نزل للتهدئة، لكنه أورد فى كتابه أن الجماهير طالبته فى التحرير بأن «يأخذ زمام الأمور فى يده». ثم أبدى سوليه ملاحظة ذكية حين لفت نظرى إلى حقيقة وجدت أنه ذكرها بعد ذلك فى الكتاب وهى أنه فى الوقت الذى أحرقت فيه الجماهير مبنى الحزب الوطنى رمز الفساد فتفحم سواداً، فإن أحداً لم يقترب من مبنى عمرو موسى الأبيض المطل على الميدان نفسه، والذى ظل أبيض كما كان قبل الثورة. نقلا عن جريدة المصري اليوم