تختلف قراءة الفيلم الأمريكي "ذا بوست" "The Post" اختلافاً كبيراً بين المتفرج هنا في مصر وبين المتلقي في الولاياتالمتحدةالأمريكية. والاختلاف يتسع أو يضيق حسب المنظور السياسي الخاص بالسياسات الأمريكية الذي يلون بالضرورة عملية التعاطي مع عمل بهذه المادة الموضوعية التي تدور في عالم الصحافة الأمريكية وبهذه الرسائل الخاصة عن فترة تاريخية عاصرها كثيرون ممن مازالوا علي قيد الحياة وأعني فترة حرب فيتنام التي امتدت سنوات طويلة شهدت إدارة أربع رؤساء أمريكيين علي فترات متتالية. المتفرج الأمريكي حسب ما قرأت يحتفي بالفيلم وموضوعه وكذلك يحتفي بعظمة مخرجه ستيفن سبيلبرج "مواليد 1946". ويجد في الرسائل المطولة انتصاراً صريحاً لحرية الصحافة ونزاهة القضاء انه فيلم يصور الصراع المهني بين اثنتين من أكبر الصحف الأمريكية وهما "الواشنطن بوست" و"النيويورك تايمز" وكيفة الهرولة من أجل تحقيق السبق الصحفي والاستحواذ علي ما يسمي ب "أوراق البنتاجون" ونشرها علي الشعب الأمريكي. إنها المعركة القانونية التي خاضتها "البوست" اختصار واشنطن بوست من أجل إبراز "الحقيقة" وكان ذلك في عام 1971 عندما سعت الصحيفة إلي نشر هذه الأوراق التي جعلت مالكتها ترين جراهام "ميريل ستريت" ورئيس تحريرها "توم هانكس" يواجهان ضغوطاً هائلة لعدم نشرها فضلاً عن إلحاق تهمة التجسس وتهديد الأمن القومي. قصة الفيلم حقيقية. والصراع من أجل الحصول علي هذه الأوراق يصورها الفيلم بكثير من المهارة الحرفية وبقدر غير قليل من الاثارة والتشويق والجودة الفنية. و"أوراق البنتاجون" ويصل عددها إلي 700 صفحة تضم سلسلة من المقالات والدراسات والوثائق السرية عن حرب فيتنام وحقيقة التورط الأمريكي فيها. وكانت من الأسرار المحظورة لكونها تدحض الأكاذيب التي روجت لها الإدارة الأمريكية ووسائل الإعلام حول جوهر هذه الحرب تلك التي خرجت فيها أمريكا مهزومة وبخسائر في الأرواح وصلت إلي 60 ألف قتيل أنها "العقدة" و"الصفعة" القاسية التي حاولت السينما الأمريكية التخفيف منها أو تزييفها بأكاذيب والتكفير عنها إعلامياً بالتضليل. لقد سبق للسينما الأمريكية أن تناولت هذه الحرب في أفلام عديدة. ومنها الفيلم التليفزيوني التسجيلي الذي عرض في عام 2003 ويلقي الضوء علي "أوراق البنتاجون" هذه أنها إذن قضية شغلت الرأي العام الأمريكي بعد تسريب الأخبار عنها وبعد الفجيعة التي طالت آلاف الأسر الأمريكية ممن فقدوا أبناءهم في هذه الحرب. والفيلم من وجهة نظر المتفرج الأمريكي يمثل انتصاراً للديمقراطية ويلقي الضوء علي عدالة القضاء الذي شرع حقوق نشر هذه الوثائق وحق الصحافة في التعبير وكشف الحقائق. إنه عمل سياسي أمريكي يقوم علي أحداث واقعية وهو ليس فقط فيلم "عن الأمس" الأمريكي بل هو أيضا فيلم عن "اليوم" وذلك حسب بعض الآراء الأمريكية. في اشارة إلي ممارسات دونالد ترامب ومحاولاته منع تداول كتاب يتناول جانباً من تاريخه الشخصي بالإضافة إلي سياسته التي تعد في جانب منها عدواناً علي "التعديل الأول" للدستور الأمريكي الذي يحظر اعاقة حرية العقيدة والتعبير أو التعدي علي حرية الصحافة أو حق التجمع السلمي.. إلخ وهو التعديل الذي جري عام 1798م والذي يري كثيرون في الفيلم أن "نيكسون" خالفه. في هذا الفيلم تظهر لقطة بعيدة للرئيس ريتشارد نيكسون من خلف زجاج نافذة البيت الأبيض وهو يتحدث في التليفون ملقياً أوامره بصوته الحقيقي الذي أتي به المخرج إمعاناً في تكريس عنصر المصداقية والنزعة الواقعية التي كست أجواء الفيلم. الصحافة والصحفيون فضيحة "ووترجيت" التي أخرجت نيكسون الرئيس السابع والثلاثين من البيت الأبيض تناولتها السينما في فيلم "كل رجال الرئيس" لمخرج أمريكي مهم هو "الين باكيولا" وقام ببطولته اثنان من النجوم الأمريكيين الكبار حاملي الأوسكار يجسدان شخصية الصحفيين العاملين في صحيفة "الواشنطن بوست" واللذان كانا وراء الكشف عن هذه الفضيحة وهما روبرت ردفورد. وداستين هوفمان. إن عالم الصحافة والشخصيات الصحفية يعتبر موضوعاً جذاباً مثيراً وثرياً جداً يتسع لاحتواء قضايا فساد سياسي. ومعالجة للديمقراطية وللتاريخ. وأيضا لقيم الحرية وحق الشعب في معرفة الحقيقة. وعشاق السينما يتذكرون الفيلم الأشهر في تاريخ تطور السينما الأمريكية هو "المواطن كين" "1940م" الذي يضع تحت الأضواء أحد أساطين الصحافة بجواشيها ومثلها وهو تشارلز فوستركين والفيلم أول أعمال أويسون ويلز وقد حاز عنه جائزة الأوسكار. وفيلم "ذا بوست" يقدم أول سيدة في تاريخ الصحافة الأمريكية تمتلك دار نشر وتدير صحيفة كبري هي كاترين جراهام التي جسدت شخصيتها بتمكن واقتدار مألوف عنها وبقدرة علي الايحاء بالمكانة والقوة وبدور المرأة. وستيفن سبيلبرج يمثل بالتأكيد إحدي القوي الناعمة المؤثرة في صناعة الترفيه وفي صياغته الفنية الاستعراضية البصرية المذهلة. والقادرة علي اجتذاب جماهير العالم. وأعماله تتصدر أعلي الإيرادات "جوراسيك بارك. إي تي. وقائمة شندلر ولينكولن إلخ".. ولا ننسي أنه مخرج يهودي صهيوني ومن الداعمين لإسرائيل بالمال والأفلام والدعاية بكل الوسائط الفنية والثقافية المرئية. وفي لبنان حيث يعرض الآن فيلم "ذا بوست" يوجد فريق كبير من اللبنانيين يعارض عرض الفيلم بسبب مخرجه الذي تبرع بملايين الدولارات لإسرائيل أثناء حربها علي لبنان عام "2006". وفيلم "ذا بوست" يهاجم الحكومات والإدارات الأمريكية المتعاقبة طوال 30 سنة ابان الحرب الأمريكية علي فيتنام وبسبب الأكاذيب التي ضللت بها الشعب الأمريكي. والسؤال الذي يمكن أن يطرحه المتفرج المصري هنا: ألم تكن هناك أكاذيب مخزية بخصوص الحرب علي العراق التي حصدت ملايين الأرواح بين قتيل ولاجيء وجريح ومشرد؟ ألم تكن الحرب علي الإرهاب هي نفسها التي فتحت أبواب الإرهاب الذي نكتوي منه هنا وفي بقاع أخري من العالم؟؟ ثم ماذا عن الحروب الأخري علي الخريطة والممولة والمسلحة تلك التي تتم بالوكالة بعد أن استبدلت الإدارة الأمريكية الجنود الأمريكيين في المؤسسة العسكرية بجيوش المتطرفين من الجماعات الإرهابية "الدواعش والإخوان .. إلخ"؟ ثم أي "ديمقراطية" تلك التي تمارسها هذه الصحف المذكورة التي أصبحت ستاراً يتم استخدامه لحصار الشعوب والتضييق علي حرياتها من أجل مصالح الاستعمار الجديد "الأمريكي والإسرائيلي الصهيونيين"؟! ما أريد أن أخلص إليه هو أن قضية الفيلم وأن كنا نؤمن بها. إلا أن الأمر كله ينطوي علي تضليل وتمرير ناعم ومسلي للأكاذيب. وخلق "أوهام" للتصدير انتهي عمرها الافتراضي وانتهت صلاحيتها. لذا فإنني أقول وأنا استرجع هذا الفيلم "إنه عمل للداخل الأمريكي. لن يصل إلينا منه إلا القدرة الابداعية في معالجة قوانين الغاب التي تطول صناعة الترفيه وأعني قانون البقاء للأقوي. ولكل سلاح قوته وتعالوا نتأمل قوة هذا الفيلم التي فشلت في اقناعنا برسالته. من الوهلة الأولي تتجسد قوة العمل من سيناريو فطن قوي ومدقق في اختيار التفاصيل التي تشحن اللقطات والمشاهد في تتابعها بما يوحي بزمن الأحداث المكان.. صالات التحرير. الملابس. الديكور. الموديلات. المبني الخاص بالصحيفة العريقة. الشارع. وإن كانت هذه الأمور تدخل ضمن مهارات المخرج وقدرته علي بعث المراحل الزمنية عبر "اللون القرمزي" وعلي تصميم الحركة واضفاء الحيوية. ايقاع متسارع يعبر عن طبيعة المهنة وأهمية تحقيق السبق الصحفي. والنجاح في خلق صور التنافس حسب طبيعة الصراع. فالمادة الموضوعية في هذا الفيلم تحتم سرعة الحركة الخارجية ومضاهاتها بالهدف المطلوب تحقيقه. الأمر الذي يضيف إلي حرارة السباق. ومن خلاله يرسم الأجواء الخاصة بعالم الصحافة. وبالمرحلة السياسية التي تعيشها أمريكا وقتئذ ودور شخصية الرئيس الأمريكي وكذلك دور العلاقات الشخصية في تسريع أو فرملة الرغبة لحظياً في تحقيق الفوز الساحق علي الغريم المنافس. الأدوار المحورية إلي جانب البطولة الرئيسية لاثنين من كبار الممثلين تبرز أهمية الأدوار الثانوية واسنادها لممثلين ليسوا أقل مهارة ولا حنكة في استحضار الشخصيات الواقعية التي لعبت دوراً كبيراً في الكشف عن هذه "الأوراق" السرية. اشير أيضا إلي الجدية الهائلة عند تناول دراما تاريخية عن أحداث مهمة جداً يعرفها الناس مثل حرب فيتنام وما جرته من تداعيات سياسية وكدمات اجتماعية كبيرة عاني منها الشعب الأمريكي. فليس بالسلاح وحده تحقق أمريكا قوتها وبطشها وتمارس أكاذيبها علي شعوب العالم. فهناك القوة الناعمة التي تتسلل إلي جماهير السينما في كل موقع علي الخريطة وتمارس الكذب بعظمة وبحرفية لا ينافسها فيها أحد. سبيلبرج تقدر ثروته بالملايين وهو صاحب نفوذ كبير ولا ننسي أن الإعلام القوي بمقدوره أن يصنع ديكتاتوريات ويهدد امبراطوريات ويصطنع "ربيع" أسوأ من الأعاصير والبراكين في أفلام الكوارث الأمريكية.