أسلوب الحكي الساحر الذي ابتدعته "شهر زاد" هو الذي أنقذها من السياف الخاص بالملك شهريار. زوجها الحاقد والمنتقم المتربص بالنساء. كل النساء. بعد أن ذاق مرارة الخيانة من احداهن.. بفضل هذا الأسلوب الجذاب استطاعة المرأة الذكية أن تؤجل نهايتها وأن تنجو من نهاية الحواديت. ظلت "شهرزاد" تحكي القصة تلو القصة طوال ألف ليلة وليلة. فأجابت استخدام عنصر التشويق في إدارة عقل "شهريار" واستحوذت عليه من خلال النهايات المؤجلة للروايات الشيقة الأمر الذي يرغم الملك المنتقم أن يؤجل قطع رقبتها مثل من سبقوها من النساء.. ولم تتوقف حكايات "شهرزاد" بانتهائها وأنا انتقلت عبر الأزمنة واتخذت حبكات مختلفة تناولتها وسائط عديدة ومن بينها السينما لطبيعة الحال واستمتعنا بأفلام من نوعية "علي بابا والأربعين حرامي" و"البساط السحري" و"رحلت سندباد و...... الخ. إن سحر البيان وثراء الخيال وبلاغة الأسلوب المفعم بالخيال والصور والقدرة علي النفاذ إلي وجدان المتلقي. عناصر الهمت المئات من صناع الأفلام الذين وجدوا في الليالي العربية حكايات مدهشة وصوراً تتجاوز الخيال وشخصيات تخطف الألباب ومغامرات تحمل المشاهد إلي أرض بعيدة خيالية مع أبطال علي غرار علاءالدين وبالطبع "شهرزاد" المرأة اللهلوبة شديدة الدهاء التي استطاعت أن تتجنب المقصلة والنهاية المأساوية وتكسب ود الملك الذي سفح قلبها عشرات العذاري الجميلات. أجواء الحرملك المغرية وأبهاء القصور. والغواني والغانيات واطراس العمالقة والمكلفون بحمل المراوح الملونة للتهوية علي الخليفة والمساند الحرير بألوانها الخلابة في أجواء الطرب والرقص والعطر الفواح إلخ هذه الأجواء الخرافية التي ثقلتها السينما العربية في مصر ولم تتوقف السينما الأوروبية والأمريكية عن اقتباسها وتوظيفها في السياق الذي يتفق مع توجهها منذ بداية اختراع الصور المتحركة. وطوال التاريخ السينمائي سوف نكتشف التأثير النافذ للثقافة العربية علي الفن السابع وسوف يكتشف المشاهد المتمرس والباحث المدقق كيف شكلت ملحمة مثل "ألف ليلة وليلة" مصدراً للإلهام وفي نفس الوقت منبعا لا ينضب من الحكايات الشيقة المليئة بالصور النمطية المشوهة والمحرفة للعرب المسلمين وللسلاطين المكتزين الشغوفين بالنساء وبالحياة الحسية المتخمة بالطعام والشهوات المادية وكيف أن هؤلاء "الجهلة" باتوا يشكلون بتخلفهم ونزوعهم إلي الكسل والحريم يشكلون تهديداً للحضارة الغربية. ولم تختلف الصورة الذهنية التي كرستها مئات الأفلام الغربية عن الشرق العربي وعن بعض رموزه الواقعية والمتخيلة من خلال الأدب المكتوب والأساطير التي ارتبطت بشخصيات مثل هارون الرشيد وحاشيته أو مثل الملك شهريار وعطشه للدماء انتقاماً من النساء. ولا نتوقع مع اشتداد الصراع بينما مع تعقيداته التي تفرعت إلي صراعات داخل الصراع مثل حكايات الخيال المخيفة أن تتوقف صناعة السينما الروائية والرسوم المتحركة "الكرتون" من خلق الأنماط العربية "الستريو تايب" التي اتسع نطاقها لتشمل نماذج علي غرار بن لادن وأبوالخاص "بالإرهاب" المتأسلم.. وما صار يمثله "الإسلام" وليس المسلمين فقط كمصدر للأيذاء والعدوان الممنهج والمدعوم "أيديولوجياً". ما جرني إلي هذا الموضوع الصعب الذي خاض فيه كثيرون من الباحثين والكتاب المتخصصين هو ما بدأت به المقال وأعني "سحر البيان" في إصابة "الهدف" حتي لو كان بعيد المنال في حاضرنا المعقد. يقول آخر أسلوب التواصل القائم علي قوة الجذب والحيلة ومن ثم الاقناع وهو العنصر الذي أتصور أننا ننقذه بشدة في الإعلام المرئي خصوصاً معظم الإعلاميين الذين يطلون من الشاشات علي الناس من دون أي مقومات تجعلهم قادرين علي الإقناع أو علي طرح قضايانا بقوة تستدعي الانتباه وتنير البصيرة وتصوب الوعي وتضع الناس أمام "منطق" يمكن استيعابه. قضية "شهر زاد" كانت البقاء علي قيد الحياة وتجنب النهاية المأساوية المحتومة ولم يكن أمامها غير "الاستحواذ بقوة المنطق وبحكايات رمزية لأبطال قادرين علي خوض المغامرة والوصول إلي الغاية ونحن لدينا من التاريخ والجغرافيا والميراث الثقافي والحجة. من يستطيع أن يُسمي واحداً أو اثنين فقط من طابور الإعلاميين من لديهم القدرة علي ابقاء المشاهد أمام الشاشة. أو من لديهم إبقاء الجمهور يقظاً وواعياً بالأخطار الجسيمة المحدقة بالوطن الذي نعيش فيه والتذكير بالتضحيات الجسيمة التي تكبدناها علي مر السنين؟ من سوف يؤرخون لصورة الإعلام في هذه المرحلة باعتباره صناعة ضخمة جداً تخاطب عقول الناس ووعيهم فلن يجد في الحقيقة سوي صور في أحسن طبعاتها لممثلين ضعاف يرتدون أقنعة وليس لديهم قضية واحدة يجتهدون للانتصار لها في وقت تشتعل فيه المنطقة.. ولو عرجنا إلي صناعة الدراما فلن تجد الصور أفضل حالا.. سوف تجد بقايا جرم ومخدرات ورقص ولعب في الصالات.