رغم أن حديث الشيخ لم يكن جديداً ولا غريباً إلا أنه كان يحمل رسالة صادقة وفصيحة.. استمدت قوتها وقيمتها من شخصيته ومكانته التي تعلو فوق المزايدة والاتهام.. بينما جلست السفيرة لأكثر من ساعة تنصت وتستوعب الحديث الذي فاجأها.. لأن هناك - ربما - من أخبرها بأن الأزهر لا يتكلم في السياسة. هاهي ذي تجلس أمام الشيخ المعمم وجهاً لوجه.. وقد ارتدت الحجاب استجابة لطلبه.. والشيخ يغض الطرف حياء وعفة.. فهو المثل والقدوة.. اجتهد في أن يكون ودوداً لكنه بالقطع تعمد أن يكون صريحاً واضحاً.. فجاءت رسالته معبرة عن ضمير أمته وشعبه. قال شيخ الأزهر للسفيرة الأمريكيةالجديدة آن باترسون كل ما يقوله المواطنون المصريون في مجالسهم.. وما يكتبه الكتاب المصريون في صحفهم وكتبهم.. مع فارق مهم أن الرسالة هذه المرة جاءت من الإمام الأكبر شيخ الأزهر.. منارة الاعتدال والوسطية.. وقبلة العلم والعلماء.. ومن ثم وجب علي السيدة السفيرة أن تفهم الرسالة علي وجهها الصحيح.. وتنقلها إلي المسئولين في بلادها بكل صدق وإخلاص واهتمام. علي السيدة السفيرة أن تقول للمسئولين في واشنطن ان هذه الرسالة ليست معبرة عن تيار أو حزب.. وليست معبرة عن شباب متحمس أو متطرف.. وإنما تعبر عن ضمير الأمة والشعب. ومن يقرأ ما نشرته الصحف عن لقاء فضيلة الإمام الأكبر والسيدة السفيرة سوف يكتشف علي الفور أن الشيخ كان محدداً ومهتماً بالمقابلة وجاهزاً ومدركاً لمكانته ومكانة من يجلس معها.. ولذلك تضمنت رسالته المختصرة كافة القضايا العالقة في علاقة مصر مع أمريكا. لم يجعل الشيخ من نفسه مسئولاً حكومياً أو دبلوماسياً.. ولم يتحدث باسم السلطة.. وإنما تحدث باسم الأزهر والأمة الإسلامية والشعب المصري.. ولذلك تحلل من القيود الرسمية.. واختار أن يكون في خندق الشعب.. وأن تكون رسالته شعبية لا حكومية. قال شيخ الأزهر للسفيرة إن الشعوب العربية تعادي سياسات الإدارة الأمريكية ولا تكن عداء للشعب الأمريكي.. وضرب أمثلة لهذه السياسات فيما يلي: * الانحياز الكامل لإسرائيل الذي يزيد من حالة الكراهية واليأس من عدالة الإدارة الأمريكية وسيزيد من إصرار الأزهر علي مناصرة ومساندة الشعب الفلسطيني لقيام دولته المستقلة وعاصمتها القدس الشريف. * التصرفات المسيئة للمواطنين الأمريكيين المسلمين في أمريكا بما يخالف قواعد الديمقراطية. * تعمد الإساءة للإسلام والترويج للإسلاموفوبيا. * الدعم السخي الذي تقدمه أمريكا وأوروبا لبعض الجمعيات التي تهتم بتوافه الأمور بينما تهمل المساعدات الجادة للتعليم ومحاربة الفقر والأمراض. * استمرار التدخلات الأمريكية في العالم الإسلامي.. خصوصاً أن الديمقراطية الأمريكية ليست نموذجاً يحتذي به.. وإنما الديمقراطية هي التي تنبع من الشعب وتعبر عن اختياره وأصالته.. ومن ثم علي واشنطن أن تتعامل مع الشعوب العربية والإسلامية من خلال الأبواب لا من خلال النوافذ والثقوب.. وأن تكف عن تأييد الاستبداد والأنظمة الاستبدادية.. وعدم التدخل في شئون الأزهر بأي شكل. وكم كانت دعوته إلي "النظر في إعادة الشيخ عمر عبدالرحمن إلي مصر" لفتة إنسانية راقية ومتحضرة إزاء شيخ ضرير مسن ومريض.. يحتاج في ظروفه الخاصة من يرعاه ويتكفل به. وكم كان الشيخ في قمة الوعي والنضج السياسي وهو ينبه السفيرة. ومن خلفها الإدارة الأمريكية. إلي أن ثورات الربيع العربي كانت تجسيداً لمجموعة من قيم المواطنة والحرية والعدالة والكرامة وعدم الاقصاء.. وهي قيم عالية ينادي بها الأزهر ويساهم في إثرائها عبر حوار داخلي يدرك خصوصيات كل بلد في إطار المجتمع العربي والإسلامي الكبير. بقيت إشارة مهمة نهمس بها في أذن السيدة السفيرة: لقد سمع السفراء الأمريكيون من قبلك كلاماً كثيراً من المسئولين في النظام الساقط عن العلاقات الحميمية والاستراتيجية بين البلدين والشعبين المصري والأمريكي.. ولسوف تسمعين كلاماً كثيراً من الحكام الجدد في مصر يختلف أو يتفق مع كان يقوله نظام مبارك.. لكن كوني علي ثقة بأن حديث الشيخ الطيب هو الأصدق والأكثر تعبيراً عن ضمير مصر والمصريين.