عيد عبدالحليم شاعر وناقد من جيل التسعينيات. يرأس تحرير مجلة أدب ونقد.. صدر له مجموعة من الدواوين الشعرية منها: "سماوات واطئة. وظل العائلة. وتحريك الأيدي. والعائش قرب الأرض. وحديقة الثعالب. وكونشيرتو ميدان التحرير". كما صدر له من الكتب النقدية والفكرية: الحرية وأخواتها. فقه المصادرة. مقاهي الصفوة والحرافيش. رسائل نجيب محفوظ. الشعر النسائي في مصر. * تعيب علي المثقفين ان تحركاتهم دائمًا ما تأتي كرد فعل. سواء قبل الثورة أو بعدها» ما هي الأسلحة الفكرية المؤثرة في تصورك لدي المثقف في مناخ عام. لا يؤمن بدور المثقف أصلاً؟. المثقفون جروح مفتوحة المفكر "إريك بنتلي" وهذه عبارة تصدق كثيرًا علي وضعية المثقف المصري من تهميش لدوره» وإقصاء متعمد وصل إلي حملات سياسية موجهة ضد المثقفين. وإلي اعتقال وسجن العشرات منهم بداية من عصر السادات الذي جاء بالإخوان المسلمين والجماعات الجهادية ليضعهم في مواجهة المثقفين» فكانت تلك المرحلة من وجهة نظري أسوأ المراحل التي مر بها المثقف المصري. وتبع ذلك محاولات تدجين "اتحاد الكتاب"» وفي عهد مبارك ظهر مصطلح الحظيرة الثقافية الذي روج له فاروق حسني ورجاله. كل ذلك أدي إلي عزلة للثقافة الجادة» ولأصوات كان من الممكن أن تؤثر في الحياة الثقافية. محاولات استلاب الثقافة وتدجينها وإغواء عدد كبير من المثقفين بالجوائز والمناصب أدي إلي غياب المثقف العضوي» الذي بإمكانه تغيير المجتمع إلي الأفضل» رأينا أساليب ممنهجة لتدمير أي فعل ثقافي حقيقي. ولم يكن الحال بعد الثورة أكثر تفاؤلاً. بل علي العكس تمامًا لم نجد أي ملامح لمشروع تنويري يلتف الجميع من حوله» حيث غلبت الذاتية والشللية» وكثرت الصدامات خاصة من بعض الأشخاص الذين كان يراهم البعض من الكتاب التنويريين ووصلت الخلافات إلي المحاكم في شكل درامي سييء للغاية. أما بالنسبة للأسلحة الفكرية التي يمكن أن يستعين بها المثقف» فأولها العقل واستعادة المناهج العقلانية لإثارة الوعي العام بأهمية الإصلاح» لأنه لا إصلاح حقيقيًا بدون الثقافة. كذلك ضرورة الاقتراب من الشارع والتماس مع ما يهم الجمهور. لقد سقط مفهوم النخبة أمام المد الشعبي في الثورة المصرية» فكان لابد من مراجعة حقيقية لدور المثقف» لأنه حتي الآن مازالت أمراض النخبة تسيطر علي المشهد. ّونشيرتو * كتبت عن الثورة. لكنك تري أن الإبداع المصاحب لها ضعيف نسبيًا ولحظي. فهل يحق للشاعر رصد اللحظات السائلة أم أن للإبداع قوانين أخري؟ أولاً أنا سعيد بديواني "كونشيرتو ميدان التحرير" لأنه أول عمل إبداعي عن ثورة يناير» وقد علمت أن هذا الديوان تم اختياره للحصول علي جائزة الدولة التشجيعية منذ عامين. إلا أنهم أعطوها لشاعر صديق كانت له ظروفه المرضية. وديواني يجمع ما بين القصيدة التفعيلية وقصيدة النثر. وكتبت قصائده في إطار اللحظة الثورية في ميدان التحرير. وجدت حالة من الغنائية تسكنني وأنا أشارك مع جموع الثوار» وقلت لصديقي الشاعر الكبير الراحل حلمي سالم: إنني أكتب قصائد غنائية» فقال لي: إن عليك ضريبة كشاعر يحب أن تؤديها» أما إذا خفت من جيلك من شعراء قصيدة النثر فلا تكتب. أعتقد أنه لا قانون للإبداع سوي الإبداع. بعيدًا عن الشكل والإطار» وأري أن النص الشعري يمكن أن يستوعب أشكالاً مختلفة» بعيدًا عن النمطية التي يروج لها البعض. رهان الشعر أن يقترب أكثر من الحس الإنساني. لا مانع من أن يعبر عن اللحظة الثورية بالفنيات التي تتطلبها هذه اللحظة. لأن الصمت الإبداعي الجماعي في تلك اللحظة مرفوض. وكثير من القصائد الخالدة في الشعر العالمي هي قصائد ثورية مثل بعض أعمال بابلو نيرودا وبوشكين وناظم حكمت ومحمود درويش. ہ في كتابك "حكاية مقاهي الصفوة والحرافيش" تناولت قرنين من التاريخ المصري والدور الذي لعبه الساسة والمثقفون في لقاءاتهم الدورية في المقاهي القاهرية. فهل كان المثقفون كذلك بالفعل. أو انهم كما وصفهم السادات يكتفون بالثرثرة علي المقاهي؟. المقاهي الثقافية ظلت لسنوات طويلة تلعب دورًا مهمًا علي المستوي السياسي والثقافي والاجتماعي. وهذا ما حاولت أن أرصده في كتابي. بداية من مقهي "متاتيا" الذي كان يجلس عليه جمال الدين الأفغاني وأحمد عرابي وعبدالله النديم والإمام محمد عبده وقاسم أمين وسعد زغلول. ومن هذا المقهي بدأ التفكير في الثورة العرابية .1881 وعلي أرصفة المقاهي ظهرت أجيال من المبدعين والمفكرين الذين غيروا وجددوا في الإبداع بمختلف أشكاله. فمن مقهي عبدالله وهو مقهي شعبي في الجيزة خرج جيل الخمسينيات مثل رجاء النقاش وأنور المعداوي وأحمد عبدالمعطي حجازي وسمير سرحان ومحمود السعدني ونعمان عاشور. أما مقهي ريش فله ذكريات عديدة ليس فقط الجلسة الشهيرة لعميد الرواية نجيب محفوظ. بل هناك حكايات تشير إلي بعض الاجتماعات السرية للضباط الأحرار قبل ثورة يوليو .1952 ومن علي أرصفة المقاهي خرجت الأشكال الأدبية الجديدة في الشعر والرواية والمسرحية والنقد أيضًا. وأود أن أذكر مثلاً ان قصيدة الكعكة الحجرية لأمل دنقل كتبت في مقهي "إيزافيتش" المواجه لميدان التحرير. وكانت هذه القصيدة بمثابة مانفيستو لثورة الطلاب عام .1972 * نالت مسرحيتك "الجرافة" جائزة توفيق الحكيم» وتناولت فيها الأيام الأخيرة في حياة المناضلة الأمريكية الشابة "راشيل كوري". التي دهستها جرافة إسرائيلية وهي تدافع عن البيوت الفلسطينية. هل يستوعب المسرح مكابدات الشاعر أكثر مما يحتمله النص الشعري أو يقبله؟. المسرح هو فن الغواية. والحق انه لم يكن في حسباني أن أكتب مسرحًا. لكن الشاعر الراحل أحمد فؤاد نجم حين قرأ بعض دواويني. قال لي: أنت تمتلك طاقات درامية. لماذا لا تكتب مسرحًا مثل صلاح عبدالصبور؟. أعجبتني شخصية راشيل كوري بكفاحها وتضحيتها بنفسها في مواجهة جرافات الصهاينة. ضاربة مثالاً فذًا في التضحية من أجل حرية الإنسان. ولحصول العمل علي جائزة تحمل اسم رائد المسرح العربي توفيق الحكيم فهذا مصدر سعادة بالغة. كذلك أنا سعيد بأن هذه المسرحية هي أول نص مسرحي لأحد شعراء جيل التسعينيات في قصيدة النثر. وهنا لابد من الإشارة إلي أن حالة الكتابة المسرحية أكثر امتدادًا وقدرة علي استيعاب التفاصيل. والغوص في تاريخ الشخصيات» بالإضافة إلي توليد دراما تتفجر مع كل مشهد. ومع ذلك يبقي المخيال الشعري مثل بندول الساعة الذي يغريك لمواصلة الغواية. لجان عقيمة * بعد كل هذه السنوات من تسيد قصيدة النثر للساحة الشعرية. ما تفسيرك للموقف الكلاسيكي المعادي من قبل المؤسسة الثقافية لبعض النقاد؟ أعتقد ان الموقف سوف يتغير في الفترة القادمة. لأن هناك جيلاً من الشعراء أصبح بحكم التاريخ والجغرافيا عصب الحركة الشعرية وكتابها المفتوح علي التجديد. أما عن الموقف الكلاسيكي للمؤسسة الثقافية فالعداء المستحكم ضد قصيدة النثر يرجع من وجهة نظري إلي اعتماد هذه المؤسسة علي أنصاف المواهب. ووجود لجان عقيمة أبرزها لجنة الشعر بالمجلس الأعلي للثقافة. والتي تسيطر عليها الرؤي التقليدية. أما النقد فلا تعويل عليه لأنه لم يواكب تطور هذه القصيدة» وأقصد هنا بالنقد النقد الأكاديمي الكتابات النقدية الحقيقي. ما يكتبه بعض الجادين من الشعراء. * تجربة مجلة "أدب ونقد" وصمودها رغم تقلبات الأوضاع المادية تستحق الإشادة.. كرئيس لتحريرها. كيف تري هذه التجربة عبر مراحلها المختلفة؟ هي تجربة صعبة وممتعة أيضًا. صعوبتها انني وجدت نفسي وحيدًا خلال السنوات الأربع التي توليت فيها رئاسة تحرير المجلة مسئولاً عن اصدارها. فلا يوجد دعم مادي من المكان الذي تصدر عنه وهو حزب التجمع. وما يقدمه صندوق التنمية لا يكفي لإصدار عددين» وحاولت بجهود شخصية أن أجعلها منتظمة الصدور. وقد نجح الرهان لأنه لا توجد مجلة تصدر في مثل هذه الظروف. أما المتعة فهي انني حافظت علي بقاء هذه النافذة الثقافية المهمة. لأن الواقع الثقافي بحاجة إلي عشرات النوافذ