ساعات معدودة اختصرت لي طبيعة الحياة الدنيا كلها في مشاهد ثلاثة ابلغ من اي كلام أو خطب دينية. المكان.. مشرحة مستشفي الساحل التعليمي والتي يتم نقل الحالات المتوفاة إليها لحين تسليمها لذويها حيث كنت انتظر مع غيري خروج إحدي قريباتي التي توفيت قبل ساعات وتنتظر دورها في التجهيز مع ثلاث حالات أخري وكأن ترتيبها قبل الأخير فتابعت في تأمل خروج باقي الحالات الذين جميعهم مكان واحد علي اختلافهم وتباعدهم في كل شيء. أول حالة كانت لأسرة ثرية ملأ أفرادها الطرقات المؤدية للمشرحة وانتظرت سيارتهم الفارهة في الخارج وكان القدر قد كتب لها ان تدخل هذا المستشفي البسيط حيث اصيبت بأزمة قلبية أمامه ودخلته لإسعافها ولكنها لفظت انفاسها الأخيرة به. عرفت من أصوات أسرتها المرتفعة كيف يرتبون لعزاء فاخر في عمر مكرم يدعون له المعارف بالداخل والذين وصلوا تواً من الخارج حتي خرج النعش الخاص بهم وتبعوه بأدعية حارة وتكبير واستغفار.. لتستعد بعدهم أسرة مسيحية لتجهيز حالتهم فدخلوا بأنواع فاخرة من الأقمشة والعطور واستغرقوا أكثر من ساعة وخرجوا يشيعونها في بكاء ونحيب والصلوات والأدعية الخاصة بهم. ثم جاء دورنا ودخلت لأودع قريبتي وقبل ان أخرج لمحت الحالة الرابعة ترقد علي "دكة" جانبية ولم يكن ينتظرها سوي رجل مسن بجلباب بسيط يحمل كفنها في كيس بلاستيك صغير ويجلس وحده شارداً بلا كلام ولا دموع. الكل خرج من مكان واحد الغني والفقير والمسيحي والمسلم لا يفرق بينهم سوي العمل الصالح وما حمله معه من زاد التقوي بما سيحدد مصيره الذي سيخلد فيه. شعرت ان هذه رسالة من بين الرسائل الربانية الكثيرة التي نتلقاها علي مدار الساعة والتي لا يعيها إلا من فتح قلبه وبصيرته وعلم ان كل يوم يعيشه نعمة كبيرة ومنحة من الله نستزيد فيها من الطاعات ونصوب فيها الاخطاء. أما من طبع علي قلبه فلا يفيقه سوي الموت نفسه وهو يظل غارقا في الغفلة يبعث له الله رسالة بعد رسالة وفرصة تلو الأخري دون ان يستوعب أو يفهم وما اكثرهم في هذا الزمن ممن يعيثون في الأرض فسادا ولا رادع لهم .. رزقنا الله نعمة البصيرة وحسن الخاتمة.