معذور ذلك الشيخ "المقرئ" الذي دعوه لقراءة القرآن في سرادق عزاء مسيحي فصدمته المفاجأة.. وأخذته الدهشة.. كيف يقرأ القرآن ومعظم الحضور مسيحيون؟!.. لكن أهل المتوفي أصروا وألحوا عليه أن يقرأ "سورة مريم" فقرأ.. واكتشف أن الناس المتواجدين استقبلوا الموضوع بكل الود والاحترام.. اعتبروها فرصة لتوطيد أواصر الوحدة الوطنية التي يشكك فيها كثيرون هذه الأيام.. وأخذوا يسجلون له قراءته ويلتقطون له الصور بهواتفهم بكل حب. أقول: معذور الشيخ نزيه متولي وهذا اسمه في صدمته واندهاشه.. فالرجل علي ما يبدو شاب ثلاثيني أو أربعيني لم يعرف مثل هذا التداخل والتمازج بين المصريين.. مسلمين ومسيحيين.. لم يعش زمن التعايش الجميل حينما كان الدين يجمعنا ولا يفرقنا.. والمناسبات السعيدة والحزينة تربط بين الناس وتزيدهم قرباً وتآلفاً. الشيخ نزيه من جيل لم يشهد ربما غير الاستقطاب والانقسام والفتن والجرائم الإرهابية والطائفية والقصف الإعلامي الجاهل والصراعات التي شوهت وجه مصر الجميل. لم أتعجب من روايته التي قالها في مداخلة تلفزيونية ونقلتها جريدة "المساء" يوم الخميس الماضي وأشار فيها إلي أنه ذهب لعزاء صديقه المسيحي الذي توفي شقيق له.. وعندما دخل السرادق وسلم علي صديقه وأقارب المتوفي طلبوا منه أن يقرأ سورة مريم في صوان العزاء فاعتقد أنها مزحة.. لأنه لم ير أحداً فعل ذلك من قبل.. لكن صديقه قال: "أنا حابب أعمل وحدة بين المسلمين والمسيحيين.. وأوصل رسالة للعالم كله أننا في مصر "إيد واحدة". نعم.. لم أتعجب من روايته.. لأن هذا الجيل حرم من كثير من مشاهد الوحدة الوطنية الحقيقية النابعة من تراث هذا الوطن وأهله.. وليست مشاهد مصطنعة أمام الكاميرات.. المشاهد الحقيقية كانت تتجلي في ذهاب المسلمين صغاراً وكباراً إلي الكنائس في المناسبات للتهنئة أو لتقديم واجب العزاء.. وذهاب المسيحيين إلي مناسبات إخوانهم المسلمين بشكل طبيعي لا اصطناع فيه.. بل كانت الدواوير والمضايف في القري تجمع المسلمين والمسيحيين في كل المناسبات.. يقام فيها اليوم عزاء مسيحي ويقام فيها غداً عزاء مسلم.. وأهل القرية جميعاً يحضرون هذا وذاك.. ويذهب الشيخ إلي عزاء المسيحيين ليقرأ شيئاً من القرآن.. ويذهب القسيس إلي عزاء المسلمين ليلقي موعظة علي الحضور.. لا يتعرض فيها لصدام العقائد واختلاف الدين.. وإنما يتحدث عن القيم المشتركة التي يجب علي الإنسان أن يعيش عليها في الدنيا حتي ينال الجزاء الأوفي عند الله في الآخرة. كانت هناك مساحات مشتركة واسعة وفسيحة للتعايش والمحبة وتبادل المصالح دون تدخل طرف في عقيدة الطرف الآخر.. لذلك لم تعرف مصر عبر تاريخها الطويل ما تشهده اليوم من استقطاب وإرهاب أسود وخطاب ديني يقوم علي التحريض واحتكار الآخر وتسفيه عقائده. كان هم المصريين الأكبر كيف يتعايشون معاً في سعادة واطمئنان وتعاون لبناء وطنهم وتحقيق رفعته ورفاهيته وتقدمه.. وليس كيف يقتل بعضنا بعضا ويدمر بعضنا بعضا ويكره بعضنا بعضا. يجب أن نعترف بأننا وصلنا إلي مرحلة غاية في السوء.. وأننا في حاجة ماسة إلي جهد جبار لكي نعود مصريين بحق.. نعود كما كنا شعباً واحداً.. يتفق ويختلف سياسياً واجتماعياً ودينياً.. لكنه في النهاية شعب واحد في وطن واحد.. رسالته أن يعمر هذا الوطن ويرفع شأنه.. لا أن يدمره ويخربه ويمزق وحدته.