كتبت في هذه الزاوية يوم الجمعة الماضي مقالاً بعنوان "حديقة الكلاب" تناولت فيه مظاهر الانقسام الطبقي الحاد والمخيف الذي حدث في المجتمع المصري.. والذي بلغ ذروته في تخصيص حديقة بمدينة الرحاب للتعارف والتزاوج بين كلاب الطبقة "العليوي" بينما لا يجد ملايين من شباب هذا البلد مسكناً آدمياً لائقاً يتزوجون فيه وماء نظيفاً يشربونه. وبمقتضي قانون التداعي تطرقت في هذا الصدد إلي المقارنة بين مصريين يمتلكون طائرات خاصة لتنقلاتهم وآخرين يموتون من الزحام والتكدس في المواصلات العامة.. ومصريين يعيشون في القصور والفيلات داخل الكومباوند المحاط بسور حديدي ضخم وآخرين لا يجدون شقة من غرفتين للسكني.. ومصريين لا يعرفون غير المدارس والمستشفيات الأجنبية والدولية التي تتعامل بالدولار وآخرين لا يعرفون غير المستشفيات والمدارس الحكومية التي لم تعد صالحة للاستخدام الآدمي. وكنت أظن أن هذه أقصي وأقسي مظاهر الانقسام الطبقي الحاد في المجتمع المصري.. ولكن التقرير الخطير الذي نشره "الأهرام" يوم 6 أبريل الحالي فتح عيوننا علي مصر الأخري.. مصر التي لا نعرف عنها شيئاً.. المنفصلة تماماً عن مصر التي نعيش علي أرضها بكل ما يثقل كاهلها من أزمات. يقول التقرير: ربما لا يصدق أحد أن مصر بظروفها الاقتصادية الصعبة تسمح باستيراد سلع استفزازية وصلت قيمتها إلي ما يزيد علي 6 مليارات دولار أكثر من خمس قيمة الصادرات المصرية عام 2014 ونحو عشر قيمة الواردات ومن هذه السلع الاستفزازية التي سمحت مصر باستيرادها طعام القطط والكلاب بقيمة 153 مليون دولار.. ولعب أطفال بقيمة 55 مليون دولار.. وجمبري جامبو وكافيار بقيمة 78 مليون دولار.. وياميش رمضان بنحو 104 ملايين دولار.. ولحم طاووس وغزلان ونعام وما في حكمها بنحو 95 مليون دولار.. وشيكولاتة بقيمة 57 مليون دولار.. وسيارات للسباق وسيارات لملاعب الجولف والباجي بيتش وما في حكمها بنحو 600 مليون دولار.. إضافة لاستيراد ألعاب نارية كالشماريخ والبمب والمفرقعات بقيمة 600 مليون دولار. هذه مصر الأخري التي لا تعرف أزمات الكهرباء والمياه والصرف الصحي ورغيف العيش والمواصلات وارتفاع الأسعار.. مصر التي يأتيها الطعام المستورد من الخارج علي متن الطائرات لكي تأكل وتطعم كلابها وقططها طعاماً نظيفاً ولا تأكل من الطعام الملوث بمياه المجاري.. مصر الأخري التي تسهر ليلها في حفلات الفنادق وعلي طاولات القمار وتتفنَّن في استفزاز مصر الأولي وقهرها ومص دمائها.. وتنشر فيها القيم الخبيثة والطموحات الفاسدة والثقافة الهابطة والتقاليد الاستهلاكية العشوائية لكي تدفعها دائماً إلي الخلف ولا تدعها تتطلع إلي الأمام. هذه مصر الأخري التي يتوافر لها الدولار لاستيراد الشيكولاتة والكافيار والجمبري ولحوم الطاووس والغزلان بينما لا تجد مصر الأولي الدولار اللازم لاستيراد معدات مصانع الغزل والنسيج والحديد والصلب حتي تعمل وتنتج وتطعم الأفواه الجائعة وتفتح بيوت الغلابة وتستوعب ملايين الشباب العاطلين الهائمين في الشوارع. هذه مصر الأخري التي تربي القطط والكلاب لزوم الحراسة كي تحميها من مصر الأولي.. وأيضاً لزوم المنظرة والفشخرة والبلطجة وتقليد الأجانب.. ولا تربي الماشية والماعز والدواجن لزوم إطعام الجائعين الذين لا يعرفون طعم اللحوم ربما إلا في رمضان والأعياد. هذه مصر الأخري التي تقيس أهمية كل نشاط اقتصادي أو اجتماعي أو علمي بمعدل الربحية دون النظر إلي متطلبات الأمن القومي.. وبهذا المنطق أوشكت أن تدمر كل شيء جميل وكل قيمة جميلة في مصر الأولي. كيف يستمر الوضع علي هذا النحو وإلي متي؟!.. الجنيه المصري يئن ويتوجع بسبب استيراد السلع الاستفزازية بالدولار الشحيح.. بينما يعيش المسئولون عن العدالة الانتقالية في واد آخر ولا يرون هذه التشوهات الاقتصادية والانقسامات الاجتماعية التي لا يتطلب علاجها أكثر من مضاعفة الرسوم الجمركية عدة مرات للحد من تغول مصر الأخري علي مصر الأولي.