منذ أن ماتت أمي أستحي أن أكتب عنها.. رحلت معها اللغة والحروف تماما مثلما باتت كل الأشياء منقوصة.. الفرحة والضحكة وحتي الشمس والقمر.. تغيرت عاداتهما.. بات الدفء بارداً والضوء خافتاً. ثمانية عشر عاما مرت علي رحيل أمي.. وقتها كنت تخرجت منذ سنوات قليلة.. كنت أريد أن أعمل لأجلها وأتزوج لأجلها وأفرح لأجلها. لكنها رحلت قبل أن يكون لأحد أي أحد عليها شيء.. رحلت بعد أن أعطت ورعت وأفاضت وأحبت وسهرت وبكت.. رحلت في ليلة ليست ككل الليالي.. ليلة تليق بها.. رحلت ليلة وقفة العيد.. تركتنا في العيد.. فأصبحت من يومها بلا عيد. يوم أن ماتت أمي شعرت أن كل شيء في الكون تبدل.. حتي الألوان.. كل شيء بات قاتما إلا قبرها الذي أمر عليه جيئة وذهاباً في قريتي.. يوم ماتت شعرت أنه بات في الموت ما يغري.. يوم ماتت رحل الكثير مني.. ربما رحل أجمل ما كان. اعتدت في أيام كثيرة أن أغلق الباب علي نفسي. وأنادي خلسة ودون أن يسمعني أبنائي وزوجتي: "يو مًّه".. هكذا كنا نناديها "يو مًّه".. كثير أن تعيش بقية العمر محرمة عليك تلك الكلمة.. كثير أن يصبح الصبي كبيرا في يوم وليلة بلا ركبتين يغفو عليهما.. بلا صدر هو كل الدنيا تختبئ فيه من الدنيا.. بلا تلك الضحكة التي لا تحتمل سوي تفسير واحد "يا أغلي عندي من عينيه".. طوبي لأولئك الذين يعيشون تحت أقدام الأم.. هنيئاً لأولئك الذين لازالوا يقولون "يا أمي أو يا ماما أو يا امه".. ما أسعد هؤلاء الذين لم تحرم عليهم تلك الحروف.. لا ثروة في الكون تعدل ما لديكم.. لا شيء في الدنيا يساوي ما تحوزون.. إنها كل شيء وأغلي شيء وأنقي شيء. تحتفلون هذه الأيام بعيد الأم. ومضي علي ثمانية عشر عاما بلا عيد ولا أم.. أتواري كل يوم.. أغبط الأطفال والكبار.. أبحث بين كل أم عن أمي.. أتوق لخالة أو عمه تتركني راضية أقبل يديها. فقد مرت علي سنوات طوال لم أكترث بتقبيل يدي أم أو قدميها. حتي رحلت فلم أجد ما أقبل.. مرت علي سنوات طوال أقضي اليوم بصحبة الأصدقاء وأعود أتسلل إلي غرفتي. فلما رحلت أصبحت أبحث عن ظلها. كنت دائما علي يقين أنني لن أكتب عن أمي كما يجب.. والآن أشعر كم أن ما كتبت قليل عليها.. لكنها كانت كذلك.. اعتادت القليل ورضيت بها.. عاشت سنوات العمر القصير في رحلة ألم وأمل.. عاشت لنا.. تدخر لنا اللقمة والبسمة وحتي النومة الهادئة ويوم شعرت أننا جاهزون لتعطيها.. رحلت.. لم تكن تريد أن يكون لأحد فضل عليها وهذا ما يؤلمني.. رحلت ولم أقل لها كم كنت أحبها. والآن ماذا.. كيف أنهي ما بدأت.. سأفعل كما يفعل الجميع.. كل عام وأنت في قلبي.. كل يوم وأنت أغلي.. كل ساعة وأنت في مرمي البصر.. تطلين علي بوجهك المطبوع في كل شرايين القلب.. كل يوم وانا أبكي فبكاؤك وحده يمنحني الراحة.. أتدرين أمي "كل عام وأنت بخير" فأنت كل الخير.. كل عام وكل أم أحلي ما في الكون.. أنتن سر الحياة وأروع ما في الوجود.. ليتني استطيع لقبلت أيديكن جميعا وإن فعلتها مع إحداكن فلا تغضب فأنا من ماتت أمه. ** ما قبل الصباح: حين تراقب أبناءك قد تجد ما يعيد إليك بعض تفاصيل هذا العالم الذي تبكيه.. رحلت أم وبات لأبنائك أم.