لم تكن الحكاية تحتمل كل هذه الضجة التي حدثت.. وكان يمكن أن تمر مثل آلاف الحكايات المشابهة.. ولكن لأن فيها صحفياً أجنبياً كبيراً ومشهوراً وفيها صحفية أخري تستطيع أن تكتب وتنشر في صحف أجنبية.. فقد طارت أخبارها حتي لفت العالم ومازالت.. ونشرت بالتفصيل الممل في صحيفة "نيويورك تايمز" التي نشكو دائماً مما تنشره ضد مصر ولا ندرك أن المصريين بأخطائهم هم الذين يسيئون إلي أنفسهم وإلي بلدهم الكبير. الصحفي الأجنبي بطل الحكاية هو آلان جريش الفرنسي الجنسية القاهري المولد.. رئيس التحرير السابق للطبعة العربية من صحيفة "لوموند ديبلوماتيك" الفرنسية.. والباحث السياسي المتخصص في شئون الشرق الأوسط.. وبالمناسبة هو الابن غير الشرعي لهنري كورييل مؤسس الحزب الشيوعي المصري. كان آلان جريش في زيارة لمصر الأسبوع قبل الماضي حيث تعرض لأول مرة لواقعة غريبة جعلته يقيم الدنيا ولا يقعدها حتي الآن.. فقد كان الرجل يجلس علي مقهي بمنطقة جاردن سيتي بالقرب من السفارة البريطانية بصحبة فتاتين إحداهما صحفية والأخري شقيقتها.. وبينما هم يتناقشون عن السياسة والجامعة والإعلام فوجئوا بإحدي الزبائن التي كانت تجلس علي طاولة مجاورة تصرخ فيهم وتتهمهم بالعمل من أجل تخريب البلاد.. ثم أسرعت وأبلغت الشرطة فسحبوا من الرجل جواز سفره ومن الشقيقتين بطاقتيهما الشخصية واقتداوا الثلاثة إلي القسم حيث تم استجوابهم.. وأخيراً حينما تعرفوا علي شخصية آلان جريش تطايرت المكالمات الهاتفية وتلاحقت.. وبعد ساعتين أطلق سراحهم.. وقدمت الشرطة الاعتذار للرجل المهم. الحكاية بالطبع لم تتوقف عند هذا الحد.. فقد خرج آلان جريش يتحدث عما حدث ويجيب عن أسئلة الصحفيين وتتناقل الصحف ووكالات الأنباء والفضائيات الأجنبية تفاصيل ما جري.. وسجل جريش عدة ملاحظات في مدونته عن الواقعة التي اعتبرها إهانة كبيرة يتعرض لها في مصر للمرة الأولي.. وتوقف كثيراً عند سلوك المواطنة "الجيدة" التي أبلغت عنه وعن ظاهرة من أسماهم ب"المواطنين الشرفاء" المهووسين بفكرة المؤامرة. يقول جريش إن هناك جزءاً من المصريين أصبح مقتنعاً بأن بلاده تواجه مؤامرة أمريكية أوروبية إسرائيلية.. مع أن هذا الاقتناع يتسم بالتناقض التام لو علم المصريون قوة العلاقة الموجودة من الآن فصاعداً بين القاهرة وهذه الجهات الثلاث.. محذراً في هذا الصدد من خطورة سلوك "المواطنين الشرفاء" علي المجتمع.. فهم حسب تعبيره أكثر خطراً من أي نظام بوليسي قمعي. أما الصحفية رفيقة الموقعة سارة خورشيد فقد نشرت مقالاً في "نيويورك تايمز" ذكرت فيه تفاصيل ما حدث.. ونقل موقع "المصري اليوم" الاثنين الماضي فقرات من هذا المقال الصعب.. حيث قالت إنها كانت شاهدة علي ما يعنيه العيش في مناخ يقوم فيه المواطنون العاديون بالوشاية علي مصريين آخرين وبتشجيع من وسائل الإعلام التي تعمل بمنهجية علي غرس الخوف لدي المصريين من أي شخص يجرؤ علي انتقاد الوضع الراهن أو التشكيك في أداء الحكومة والأجهزة الأمنية.. وبررت اعتذار ضباط الشرطة للصحفي الفرنسي بالخوف من انتشار الفضيحة في وسائل الإعلام الدولية. وهكذا صارت الواقعة مطعناً جديداً في المناخ الثقافي والإعلامي والسياسي الذي يتهم بأنه غير ديمقراطي وغير قادر علي تقبل الرأي الآخر والحوار حتي ولو كان الأمر يتعلق بمجرد دردشة علي المقهي.