المهرجانات السينمائية مناسبة علي قدر كبير من الأهمية لأنها فرصة لتأمل الدور الذي يلعبه وسيط الفيلم باعتبارها الأقوي تأثيراً جماهيرياً.. والمهرجان ينقل الضروري آخر ما أنتجته هذه الصناعة القوية من موضوعات وأفكار وأحداث وآخر ما توصل إليه صناع السينما الكبار والموهوبون من أساليب فنية وما ابتكرته من تقدم علمي في مجال تكنولوجيا الصورة والصوت والمؤثرات وكيف استخذم هذا الوسيط التعبيري في معالجة أشكال الصراعات التي تتفجر علي معظم بلدان كوكب الأرض.. إنه ساحة واسعة ورحلة رائعة في فضاء الابداع. ومن خلال السينما وأفلام المهرجان تزداد قناعتي شخصياً أن الحياة البشرية لا تختلف أبداً عن الحياة في الغابة ذلك رغم كل مظاهر الحضارة.. وربما بدت أكثر قسوة بكثير من الأحراش.. فالتوحش البشري ليس له حدود. والقانون الغالب والحاكم لهذا الكوكب هو قانون البقاء للأقوي. انظر علي سبيل المثال لموضوعات بعض الأفلام الجيدة التي استطاع المهرجان في هذه الدورة استحضارها.. ومنها فيلم "شارلي الاسترالي". و"جئنا كأصدقاء" الفرنسي النمساوي وفيلم "قطع" the cut الألماني التركي و"عيون الحرامية" الفلسطيني.. وهذه جميعاً أفلام تنطوي في جوهرها علي صراع قوي لا تستند علي حق مشروع. وإنما علي منطق القوة. والقوة هنا استعمارية قمعية وغاشمة إن الاسلوب الذي يوظفه المخرج أو المخرجة يعكس أيضاً حجم القوة التي يتكيء عليها صانعه. الصور في نهاية الأمر سواء أكان الفيلم تسجيلياً أو روائياً يعكس صفحة في تاريخ الصراع الدموي الطويل والممتد الذي يخوضه الإنسان لتحرير روحه واثبات حقه في الوجود علي قيد الحياة.. وحتي عروض هذه الأعمال وانتشارها أو حجمها يعتمد علي "قوة". الأفلام الفائزة في المهرجانات الدولية بدورها تعكس فصولاً من صراع علي مستوي آخر. مثلما تعكس مظاهر أخري للقوة تفرض نفسها. وهذه المرة قوة تصنعها الفنون وأولها فن السينما الأكثر شعبية الذي يتم توظيفه الي أقصي حد لأغراض السياسة والأيدولوجيات التي تقف وراءها قوي أخري. فليست مصادفة أن تتسيد السينما الأمريكية علي سينمات العالم. وأن تكون هي النموذج الأفضل للغالبية العظمي من عشاق الفيلم. كما أنه ليس من المصادفة أن تتراجع مصر سينمائياً في زمن الضعف والانهيار الاقتصادي والانحطاط الثقافي وبالتالي تكون مشاركتها في المهرجان هذه الدورة 36 مجرد فيلم وحيد وكئيب يتأمل موضوع الموت بعنوان "باب الوداع" لمخرج شاب "كريم حنفي" جاهد سنوات من أجل انتاجه. ومما لاشك فيه أن المهرجانات السينمائية ليست مجرد بهرجة فارغة واحتفالات بلا مضمون.. ولكنها في جوهرها "كيان وفن حي" يتسم بشخصية تعكس ثقافة وذوق وانهيار بعينه للجمال والحضارة الفنية وتراعي في نفس الوقت البيئة وخصوصية البلد الثقافية بحيث لا تصدم الجمهور المحافظ في معظمه. بأفلام مشاركة تصور كافة أشكال الشذوذ والانحرافات الأخلاقية بفجاجة مباشرة وتعمد كريه لإبراز بشاعة السلوك الإنساني حين يتجرد من القيم ومن الإنسانية ومن الجمال والأخلاق.. حدث هذا في مهرجان الدورة ال 36 المنعقدة حالياً مع فيلم "خريطة للنجوم" الفرنسي الأمريكي للمخرج دافيد كروننبرج. الفيلم أصاب الجمهور بالقرف. وبالانزعاج الشديد. كثيرون تركوا العرض وسخطوا علي من اختاره. المخرج هنا يخاطب جمهوراً غربياً. وثقافة مختلفة وبيئة أخلاقية شرعت الشذوذ وفتحت باب "الحرية" علي مصراعيه ولكل الأفكار والظواهر. وأشكال التدني السلوكي والخراب الروحي.. وكان من الممكن للرقابة الفنية في مصر أن تبيح الفيلم ولكن بشروط أهمها انه لا يعرض إلا للنقاد فقط ولأسباب تتعلق بمهنتهم وللمختصين جداً في صناعة الفيلم. إن عدم الاعتراف بالخصوصية الثقافية لجمهور المستقبلين للفيلم وضرب أشكال التوازن واللياقة في مقتل بهدف مزعوم هو احترام حرية التعبير- هكذا من دون بيئة ثقافية مواتية تتفهم هذا "الانحلال" المقنن فنياً يعتبر درباً من التخريب العقلي ان صح التعبير ناهيك عن التجاهل التام للتأثير العام. المهرجانات ليس ساحة للفوضي الأخلاقية بحجة "الحرية" ومهرجان القاهرة ليس مثل مهرجان "كان" الفرنسي.. هنا لا يستطيع مصري ان يمشي عارياً علي الشاطئ في أي مدينة ساحلية مصرية كما اننا لا يصح ان نعرض فيلماً عرضاً عاماً بهذا المستوي من "الحرية" أياً كان مستواه الفني أو أهمية مخرجه لأن الجمهور لن يتقبله خصوصاً والمهرجان "مفتوح" أمام الجميع. من العناصر الإيجابية القليلة في هذه الدورة الي جانب الاختيار الموفق لبعض التجارب الجيدة المهمة والحاصلة علي جوائز في المهرجانات الغربية وانتظام العروض في مواعيدها حتي لو خلت القاعة إلا من عدد لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة. ومن العيوب اللافتة الضعف الواضح للندوات التي يفترض أنها ضرورية لإلقاء الضوء علي هذه التجارب والتحاور مع أحد صناعها والرد عليه إذا جاء بمعلومة قد لا تكون دقيقة. أو الاستعلام عن تفاصيل غابت عن الجمهور الذي شاهد الفيلم وأيضاً بعد المسافة من مكان ا لعرض ومكان الندوة. في نشرة المهرجان يقول المخرج الألماني التركي الأصل وأحد أبناء الجيل الثاني من المهاجرين الأتراك في ألمانيا ان فيلمه "القطع" يعتبر أول الأفلام التي عالجت قضية مذابح الأرمن الأتراك في بدايات القرن العشرين "1915" التي راح ضحيتها حسب الأرقام المسجلة 800 شخص. والحقيقة ان المخرج الكندي المصري المولد والأرمني الأصل أنوم اجويان سبقه بفيلم مهم وحيد "آرارات" 2002 والعنوان يشير الي اسم الجبل الذي أقام تحت سفحه الأرمن وحدثت في رحابه المذبحة الجماعية. أشير أيضاً الي المجاملات الصارخة في اختيار أفلام للمسابقة الدولية مثل الفيلم التسجيلي المتواضع "أصفر.. أحمر.. أزرق" للمخرجة الإماراتية نجوم الغانم وهي من المخرجات القليلات الجديرات بالاحترام والمتابعة ولكن دخول فيلمها هذا ضمن المسابقة لم يخدمها وإنما فتح الباب لانتقادات كثيرة. وتعليقات ليست في صالح الفيلم ولا من اختاره وكان يرغب في تقديمه كفيلم افتتاح. طالت المجاملات عنصر المطبوعات الغزيرة التي وفرت الفرصة لأناس يقدمون "مؤلفاتهم" التي أتمني أن تجد من يفندها ويرصد الغث والرخيص منها.. بعض الكتب القليلة فقط من هذه الكومة الكبيرة من المؤلفات سوف تبقي علي الأرفف لدي من تسلموها.. أتساءل كم تكلفت هذه "المطبوعات"؟.. وكم تكلفت "الكارنيهات"؟.. الأرقام المتداولة مخيفة فعلاً.. وكم سيدفع المهرجان لكل هؤلاء "الأساتذة" الشباب الذين شاركوا في أقسام وفعاليات المهرجان؟.. وكم تكلف الضيوف "الأصدقاء" الذين أتوا من كل صوب وحدب للمشاركة؟؟. وزير الثقافة في أحد لقاءاته صرح بأن التكلفة قليلة جداً أمام هذا الاحتفال الكبير.. فما قيمة 15 مليون جنيه مصري بالنسبة لمهرجان دولي فني؟!! فعلاً.. ما قيمة المال في هذا المجال الثقافي الفني السينمائي وما أكثر المهرجانات والمؤتمرات والكرنفالات الفنية التي أقامتها وزارة الثقافة وبتكلفة أكثر مع ضيوف وكتب وتظاهرات أقوي.. المهم الثقافة وحرية التعبير!!