جميل محمود عبدالرحمن واحد من أبرز الشعراء في صعيد مصر وأغزرهم إنتاجاً.. ورغم إقامته في محافظة سوهاج فقد استطاع هذا الشاعر الكبير أن يصل بصوته إلي الدول العربية كافة. وحصل علي العديد من الجوائز أهمها جائزة الدولة في الشعر عام 1995 التي كان أول شاعر صعيدي يحصل عليها. مؤخراً أصدرت الهيئة العامة لقصور الثقافة الأعمال الكاملة لجميل عبدالرحمن والتي تضم 19 ديواناً.. المساء التقته في هذا الحوار الذي تحدث فيه عن دلالة صدور هذا الأعمال .. وكذلك عن همومه كشاعر قابض علي الجمر بإصراره أن يظل مقيماً في أقاصي مصر غير عابئ بالشهرة أو الأضواء التي تمنحها القاهرة * أولاً ما دلالة صدور أعمالك الكاملة الآن وكيف تعاملت مع هذا الأمر؟ صدور هذه الأعمال يعني أنني في هذه المرحلة من العمر أجد تقديراً يلاحقني ويمنحني القدرة علي الاستمرار والحياة . لقد مررت بظروف ألزمتني الفراش ثمانية أشهر. وربما لولا هذه الظروف لكانت الأعمال الكاملة أكثر . فلدي ثلاثة دواوين خجلت من أن أكلف أصدقائي بجمعها لأنني كنت طريح الفراش فاكتفيت بتسعة عشر ديواناً . بل إنني عندما ُطلب مني الاختصار في أربعة أجزاء تخليت عن معظم قصائدي حتي أن ديواني الأول لم يبق منه إلا عشر قصائد هي التي أشار إليها الراحل الكبير محمد الجيار في مقدمته لديواني " علي شواطئ المجهول ". لقد شعرت وكأنني ألقي بلحني علي الأرض وتعرضت لغيبوبة سكر .. وبصفة عامة أعتبر صدور أعمالي الكاملة بداية وليست نهاية . بداية لأن أتمم مشواري وأجتهد في أن يصدر لي ما بقي من أعمال لعلي أقدم للقارئ المصري والعربي شيئاً يستحق أن يعلق في ذاكرته كشاهد علي عصر تضطرب فيه الرؤي والأحداث ونري فيه الأحداث الجسام التي يمر بها وطننا العربي الذي أرجو أن تلتئم جراحه ويستعيد توازنه.. هذا حلم أتمني تحقيقه قبل أن أغمض عيني إلي الأبد. غزارة الانتاج * تسعة عشر ديواناً .. إنتاج غزير بالفعل.. ما سره.. وهل الإقامة في الصعيد منحتك الفرصة لإنتاج كل هذا الكم من الدواوين؟ نعم .. نحن في الصعيد . وعلي ما نعيش فيه من جفاف وما كان يلقاه الصعيد من الإهمال في العصور البائدة والقريبة. نحيا في صفاء وحالة تأمل وتواصل مع الناس. كل هذا يمنحني الفرصة .. والوقت متسع للقراءة والتأمل ثم يكون المردود أن أبدع . ثم ذلك الإحساس أنك مبعد يجعلك تشعر أنك تتعرض لظلم أو تجاهل . كل ذلك أضعه خلفي ليكون دافعاً للإبداع والإنتاج. رغم غزارة الإنتاج وتميزه فإن الاهتمام النقدي يكاد يكون نادراً.. كيف تفسر هذا الأمر؟ هو نادر بالطبع لكن هناك أماكن قريبة وبعيدة تدرس شعري . فوجئت منذ عدة سنوات وأثناء مؤتمر الأدباء في دمياط أن د.صابر عبدالدايم يدفع بقصائدي ودواويني داخل الدراسات الجامعية . كما فوجئت بطالبة من كلية الدراسات الإسلامية بأسيوط تحصل علي ماجستير بامتياز عن رسالتها " الاتجاه الوطني في شعر جميل عبدالرحمن ". ومنذ عدة أشهر درس محمد صلاح الظواهر الفنية في شعري وحصل علي درجة الماجستير بامتياز أيضاً. والآن تدرس الباحثة المجيدة نبيلة مندور استلهام التراث في شعري تحت إشراف د. ربيع عبدالعزيز يعاونه د.مصطفي الضبع . وهو موضوع لم يتطرق إليه أحد من قبل . وأعتقد أنها ستكون أهم رسالة كتبت عني . وهناك أيضاً د.محمود دياب يجتهد في تقديم شعري في كلية الآداب وكلية التربية . وعلمت من إحدي الموظفات أن شعري يملأ ساحات كبيرة في هاتين الكليتين. كما يهتم بتدريس شعري د. سهام راشد ود. أحمد يوسف وغيرهما. * هذا علي المستوي الأكاديمي ولكن ماذا عن المستوي العام .. الدراسات والمقالات الموجهة للقارئ العام؟ ألم أقل لك إن الصعيد مظلوم. ولكن لاأنسي أن الشاعر الكبير فاروق شوشة كتب عني في الأهرام بل وافتتح ديوان"شعراء مقتحمون " بقصائدي. وكذلك كتب عني الشاعر الكبير أحمد سويلم . وبعض اساتذة كلية آداب بني سويف ومنهم د. أشرف عطية . كما كتب عني عبدالجواد خفاجي عدة دراسات بعضها لم ينشر نظراً لطوله الشديد.. ورغم ذلك أعترف أنك تلمس وتراً حساساً وهو أننا في الصعيد مظلومون في هذا المنحي وأن الدراسات تتجافي عن وجوهنا المبدعة حتي أننا كنا منذ عهد قريب لانذكر عندما يذكر السبعينيون . رغم أنني كنت أول شاعر سبعيني من الصعيد يفوز بجائزة الدولة في الشعر ثم فُتح الباب لدرويش الأسيوطي وعبدالستار سليم وزكريا عبدالغني وأخيراً عزت الطيري. موقفي من النثر * تكتب القصيدة الكلاسيكية . كما تكتب قصيدة التفعيلة .. ماموقفك من قصيدة النثر ؟ التجديد في ظني هو العمل علي تعصير أو عصرنة التراث . أما التمرد فهو يهدم المسلمات. الشعر كما أراه معجون بالموسيقي . وقصيدة النثر تقع في إشكالية " قصيدة ونثر" . ورغم ذلك أنا لا أعاديها لأن هناك جماليات تقدمها. مايعيبها أنها لم تقدم النموذج الذي نستطيع القياس عليه. القصائد متشابهة . ولكني لست ضدها وأكتب ما أعتقد أنه الشعر وألتزم بالعروض الخليلي سواء في القصائد الكلاسيكية أو في قصائد التفعيلة. وبصفة عامة لا صراع مع أحد لأن حركة التاريخ تغربل وتفرز.. ولا أنكر أن هناك نماذج من شعر العامية في قصيدة النثر جيدة وبها مناطق إنسانية نشعر بها وتلمس وتراً إنسانياً في قلوبنا.. المهم أن يكون هناك شعر. * علي الرغم من وجود العشرات من الشعراء المجيدين في الصعيد فإنهنازال مفرخة للتطرف والإرهاب .. هل العيب فيكم أم في أدوات التوصيل التي تمثلها قصور الثقافة؟ الخلل الحادث يقع في أمرين .. الأول كما تعلم أن الخميرة الإيمانية في الصعيد شديدة الخصوبة وأن الناس تعلم أبناءها في سن مبكرة التمسك بالدين وهذا أمر طيب لاشك لكن المشكلة فيمن يتلقي الدين بشكل خاطئ.. الأمر الثاني أن الفقر في الصعيد تستغله الجماعات المتطرفة في أن تقدم للفقراء بعض العون المادي ومن ثم تستطيع الاستحواذ عليهم.. أما إمكانات قصور الثقافة فهي تحتاج المزيد من الدعم والانتشار .. تذكر في حواراتي مع الفنان فاروق حسني وزير الثقافة الأسبق خلال مؤتمرات أدباء مصر أنني كنت شديد الإلحاح علي إنشاء المزيد من قصور وبيوت الثقافة في الصعيد لأنني استشعرت أن يد التطرف تمتد إليه بضراوة وكنت واثقاً أن نور الثقافة إذا غزاه سيجعل الناس تثوب إلي رشدها لكنهم كانوا يغرون الناس بالمعونات ويزيفون وعيهم بأن ما يفعلونه هو الإسلام الحق وكان الناس يصدقونهم.. كل هذا الخلل الذي أراه يمكن احتواؤه إذا نشرنا نور الثقافة واهتممنا بالصعيد فعلاً وليس قولاً.