من الأمور المتعارف عليها في حياة المجتمع الإسلامي منذ فجر الدعوة المحمدية أن اختلاف الآراء ظاهرة صحية وهي جوهر ازدهار حضارة العالم الإسلامي علي مدي التاريخ. ورغم أن تنوع الآراء منذ عصر النبوة الأولي إلا أن ذلك لم يعطل مسيرة الأمة. كما أنه لم يجعل صاحب الرأي الذي لم يؤخذ به في حالة غضب أو استياء وإنما كان ينصهر في بوتقة العمل لتنفيذ الرأي المخالف. لا شك أن الأخذ بهذا الأسلوب ساهم في دفع العمل والبناء خطوات إلي الأمام بصورة تجعل كل فرد ينهض بالمهمة المكلف بها دون إهمال أو تقاعس. ولذلك كان العمل يجري علي قدم وساق. فهاهو سيدنا رسول الله صلي الله عليه وسيلم قد أرسي دعائم هذا الاتجاه. ففي غزوة بدر حين اختار موقعاً لمقر جيش المسلمين فأشار أحد الصحابة إلي موقع آخر أكثر فائدة للقوات ويحقق مكاسب متعددة وقدم للرسول المبررات التي تدعم اختياره وتؤكد أن الانتقال للموقع الجديد يجعل الجيش قريباً من المياه وفي مكان متميز يمنح القوات حرية العمل بلا عوائق. وباستعراض الرسول لتلك الأسانيد تبين كثيراً من المزايا فأصدر الرسول أوامره بالانتقال للموقع الذي اختاره هذا الصحابي وقد كان التوفيق حليف هذا الرأي فنصر الله جيش المسلمين رغم قلة العدد والمعدات. "كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين". كما تجلي ذلك بوضوح حين وقع في أيدي المسلمين بعد الانتصار في يوم بدر مجموعة من أسري المشركين وأراد رسول الله صلي الله عليه وسلم أن يتعرف علي رأي الصحابة في كيفية التصرف في شئون هؤلاء الأسري وسأل الرسول صلي الله عليه وسلم أبا بكر وعمر قائلاً: ما ترون في هؤلاء الأسري؟ فقال أبو بكر: يا رسول الله هم الأهل والعشيرة. أري أن نأخذ منهم فدية. فتكون لنا قوة علي الكفار فعسي الله أن يهديهم للإسلام. ثم انتقل رسول الله صلي الله عليه وسلم لعمر فقال صلي الله عليه وسلم: ما تري يا ابن الخطاب؟ فقال لا.. والله يا رسول الله ما أري الذي رأي أبو بكر. ولكني أري أن تمكننا فنضرب اعناقهم. فتمكن علياً من عقيل فيضرب عنقه. وتمكن من فلان نسيبا لعمر فاضرب عنقه فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديدها. فاختار رسول الله صلي الله عليه وسلم رأي أبي بكر. فلما كان الغد جاء عمر فوجد رسول الله صلي الله عليه وسلم وأبا بكر يبكيان. فقال عمر: يا رسول الله أخبرني من أي شيء تبكي أنت وصاحبك. فإن وجدت بكاء بكيت. وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما. فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم: أبكي للذي عرض علي أصحابك من أخذهم الفداء. لقد عرض علي عذابهم أوفي من هذه الشجرة التي كانت قريبة من مجلس رسول الله صلي الله عليه وسلم وقد نزل القرآن الكريم مؤيداً لرأي عمر يقول الله: "ماكان لنبي أن يكون له أسري حتي يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة" 67 الأنفال. وبعد ذلك قال رسول الله صلي الله عليه وسلم "لو نزل عذاب ما أفلت إلا عمر"! وفي غزوة الخندق أو الأحزاب أخذ الرسول صلي الله عليه وسلم برأي سلمان الفارسي حين أشار بحفر خندق حول المدينة لكي يصبح حائلاً دون المدينة وبذلك يتحقق الأمن والأمان للمسلمين. هذا النهج كان أفضل الوسائل للانتقال بالأمة إلي آفاق التقدم والحضارة وبناء المجتمع في أخوة بلا تحيز أو تعصب لرأي لكي يتفرغ الجميع للعمل ونشر العمران في كل أرجاء الأرض وهي بلا شك الطريق الأفضل لبناء أي أمة. لأن الحوار وطرح الآراء في جو من حسن النوايا وعدم التشبث بالأعراض أو النوازع الشخصية. فمصلحة الوطن والأمة فوق كل اعتبار. الحوار البناء نهضة وحضارة والتشتت فرقة واختلاف يدمر أي خطوات للتقدم ولا يساهم في تحقيق أي فائدة للوطن والمواطنين. وقد ظل هذا الأسلوب هو البوابة الرئيسية لتقدم العالم الإسلامي.. فهاهو عمر بن الخطاب.. حينما كان في أرض الشام وفوجئت الأمة بانتشار مرض الطاعون وقام عمر بتطبيق هذا المنهج والتحاور مع أصحابه. حيث استشار مجموعة منهم فأشاروا بالخروج فوراً من المنطقة التي أصابها المرض. وقال مجموعة أخري.. لا تخرج امتثالاً لحديث رسول الله "إذا جاء الطاعون بأرض فلا تخرجوا منها" ثم استعرض ابن الخطاب كلاً من الرأيين.. وخلا لنفسه واجتهد واضعاً مصلحة الأمة فوق كل اعتبار. ثم انحاز للخروج من المنطقة التي أصابها المرض. وحينما سأله أحد الأشخاص قائلاً: أمفر من قضاء الله؟ فقال عمر: ففر من قضاء الله إلي قضاء الله. حسماً للنزاع ورفضاً لأي أمر يؤدي إلي التفرق. كما أن الشخص الذي كان يعرض رأياً ولا يؤخذ به. كان يمتثل للرأي الذي انتهي المسئول للأخذ به. فلم يعترض أو يناقش أو يغضب. وكذلك كما شاهدنا في قضية الأسري يوم بدر. وكذلك خالد بن الوليد حينما رأي عمر بن الخطاب أن يعزله من قيادة الجيش وتكليف أبو عبيدة ابن الجراح بهذه المهمة امتثل خالد لرأي عمر بن الخطاب. وانضم إلي الجيش كأي جندي. وكذلك في تاريخ هذه الأمة كثير من هذه النماذج. الاجتهاد وإعمال الرأي والمفاضلة بين الآراء. وبذلك يتضح أنه لا حرج في الأخذ بالرأي الأنسب لنهضة الأمة والتقدم بها إلي الأمام بعيداً عن الآراء المتضاربة التي تؤدي لتأخر الأمة وانقسامها. حقيقة ما أشبه الليلة بالبارحة.. فما يجري في بلادنا هذه الأيام من حوارات ومناقشات وآراء متعددة بعضها يناقض الأخري. ولا سبيل أمامنا.. إلا باتباع منهج السلف الصالح من قادة عالمنا الإسلامي والأخذ بأنسب الآراء التي تستهدف مصلحة الأمة. ولا شك أننا في أشد الحاجة للأخذ بهذا المنهج حتي نستطيع جني ثمار الحرية التي استنشق الشعب عبيرها بعد 25 يناير.. والله لا يضيع أجر من أحسن عملاً. * * * دعاء ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماماً. ربنا أحسن عاقبتنا في الأمور كلها. وارزقنا العفاف والتقي والغني. وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب.