أمام مؤسستنا دار التحرير الجمهورية قابلته صدفة منذ شهور قليلة في المرة الأخيرة التي التقيته فيها. بعد أن استقال من منصبه كمحافظ للشرقية وقبل سفره إلي الصين لإجراء جراحة لزرع الكبد. لم أكن أعلم أنها الأخيرة. كثيرا ما تفاجئنا الحياة بما لم نتوقع أو نحتسب. كان يومها يزور أحد الزملاء. احتضنته بصعوبة كدأبي دائما في كل مرة ألتقيته وأحتضنه. لأنه كان أطول مني بكثير. لكن حميمة الصداقة بيننا كانت النافذة التي أطل منها علي قلبه النقي ودفء مشاعره. الآن أعود بالذاكرة إلي أواخر التسعينيات حين جلسنا سويا علي أحد مقاهي شارع فيصل بالجيزة. كنا نعمل سويا في إحدي المجلات. وكنت قد نشرت تقريرا صحفيا عن الكاتب محمد حسنين هيكل وصفته فيه بأنه ظاهرة استثنائية لا تتكرر كثيرا في الصحافة العربية. وكان هو بالحزب الناصري وقد لمع نجمه كناقد متخصص في الأدب. ولم يخف إعجابه بما كتبت. ولم أخف أنا إعجابي بنضاله كمفكر ومثقف ووطني كان يعشق تراب مصر. وبعدها بأيام قليلة كان ثالثنا حمدين صباحي وهو يبدأ أولي خطوات مشروع الكرامة. وتسير الرحلة وتمضي الأيام وتتبعثر الأوراق وتفرقنا المشاغل حينا وتجمعنا أحيانا ولا يزال هو كما هو. وطنيا مخلصا ومثقفا متحضرا يعي ما نمر به من أحداث. يشارك بقلبه وعقله وجهده. ويطرح موقفه الإيجابي ثابتا لا يلين. متمسكا بمبادئه لا يحيد. وهكذا الفارس النبيل دوما. لا يتنازل مهما كان المقابل. وداعا يا صديقي عزازي علي عزازي وداعا لأنك آثرت الرحيل متعبا مثقلا بقضايا وطنك. وداعا لأنك اخترت السلامة والسكينة تاركا هذه الدنيا العبث. وداعا لأنك لم تعد تلهث مثلما نلهث. ولم تعد تئن كما نئن. ولم تعد تعنيك أيام العمر الفانية. إنها اللحظة الباقية من عمري أبكيك وفاء لصداقة مخلصة في حب مصر جمعت بيننا ووفاء لعمر قضيناه معا صعلوكين يترجلان زمنا قاهرا. ووفاء لمستقبل حلمنا بأن ترتدي فيه مصر ثوب العروس. ووفاء لأغنية رددناها معا وسمعنا صداها عذبا ذات ليلة وبلدنا علي الترعة بتغسل شعرها. إنها اللحظة الباقية من عمرك أنت داخلي. أستدعيك فيها كلما تفاءلت بأن مصر لن تستلم للرياح العاصفة كما كنت تقول لي دوما وستنهض مثلما ينهض الذي أخذته غفوة أو سنة من النوم. وأستدعيك فيها كلما تحققت بشراك وأينعت زهرة شربت ماء نظيفا من النيل فأثمرت وأبدعت. واستدعيك فيها كلما طالتنا أمنيتك بأن تتنفس صدورنا هواء نقيا عند الضحي وقبل المغيب. أستودعك الله الذي لا تضيع ودائعه يا صديقي. إلي أن ألقاك في القريب إن شاء الله علي حسن الخاتمة. وسأحتضنك بصعوبة كما كنت أحتضنك في الدنيا. ضاحكا مهللا مسرورا. وسأردد علي مسامعك ما كنت أقوله لك دوما كلما التقينا: "وطوبي لمن كان له قلبي". وأسأله تعالي لي ولك ولموتي المسلمين الجنة. وأن يجعل نضالك من أجل وطنك نبراسا ينير لك ظلمة القبر. ويهون عليك وحشة الممات. اللهم إني أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحدا من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك. وأسألك بمحبتك لرسولك صلي الله عليه وسلم أن ترحمه بقدر ما عاني في رحلة مرضه. وتعوضه عن شقائه عفوا وسترا وغفرانا. اللهم اقسم له خير ما قسمت لعبد من عبادك فهو الآن بين يديك. اللهم ارحمه رحمة واسعة وأكرم نزله . وصبرنا علي فراقه وألحقنا به علي خير إنك أرحم الراحمين.