تعددت المحطات التي تنقل بينها الشاعر الفلسطيني الكبير هارون هاشم رشيد منذ مولده في غزة سنة 1927. حتي اقامته منذ عشرات الأعوام في القاهرة مندوبا لفلسطين في الجامعة العربية ومسئولا عن تحرير مجلة "شئون عربية" وكاتبا وشاعرا.. ولعل من كانوا طلابا في المدارس ما بين الخمسينيات والسبعينيات يتذكرون ترديدهم لنشيده "عائدون". عن البداية قال: تفتحت عيناي علي حارتي - حارة الزيتون - في مدينة غزة وقد قرأت فيما قرأت ان حارتي تلك كانت مركز مدينة غزة عند الأعمدة السبعة وقد حملت الحارة اسمها انتسابا إلي غابات الزيتون التي كنت تغمر أرضه وتزين دورها عبر العصور. ظلت الحارة تحمل اسمها حتي بعد ان انحسر الزيتون عن مساحات كثيرة كان يغطيها اثر الحرب العالمية الأولي حيث شهدت المدينة أكبر معركتين فقدت فيها ما يزيد علي عشرين ألف جندي وقد عمد الجيش العثماني إلي ترحيل أهل المدينة بعد المعركة الأولي لإحالتها إلي ساحة للقتال.. أثناءها سطا الجيش علي كل شيء فيها لصالح المعركة فاقتلع الأبواب والشبابيك وأشجار الزيتون ليستعلمها وقودا لطائراته. * قلنا: ما أهم ما تذكره في أعوام دراستك الأولي؟ ** قال: الشيء الذي لا أنساه وظل محفوراً في ذاكرتي كأنه الأمس يوم فوجئنا بسيارة بريطانية مصفحة نزل منها عدد من الجنود توجهوا إلي فصلنا واقتادوا مدرسنا عبدالخالق يغمور ودفعوا به إلي السيارة ولم نره بعده ربما كان ذلك من الأسباب التي أرست في أعماقي الكره للانجليز والكره للغتهم ولكل ما يمت إليهم بصلة. كان المدرس يغمور يركز في أحاديثه - إلي جانب الدروس المعتادة - علي الانتداب ووعد بلفور والهجرة اليهودية والاخطار التي تتهدد الأجيال القادمة والتي ربما تضيع فلسطين بسببها. * قلنا: كيف بدأت علاقتك بالشعر؟ ** قال: في الكتاب بدأت علاقتي الأولي باللغة العربية فتنت بها وبالجرس الرائع والنغم المموسق وذلك العبق الروحاني النافذ كأشد ما يكون إلي أعماق القلب ورغم بساطة ما كان يترنم به أبي من شعر الهلاليين في تغريبتهم وحكاياته عن عنترة وعبلة والزير سالم فقد كنت مفتونا بالرنة التي تأتي مع أوتار ربابة الشاعر وفي الليالي التي أنعم بها بحضن والدي كان يشجيني وهو يترنم قبل النوم بأبيات من التغريبة وفي المدرسة الابتدائية بدأت أولي علاقتي بالشعر. كان يعجبني ما ألقن من الشعر والنثر وكنت ما أن أعود إلي البيت وألقي بحافظة كتبي حتي أنطلق وأنا أردد ما حفظت مترنما مأخوذا بالجرس والموسيقي. تسبيني العبارة السهلة المرنمة وقد لقنت في السنوات الأولي لدراستي في المدرسة الأميرية مقتطفات من شعر المتنبي والبحتري وأبوتمام وعنترة ثم شاءت الاقدر ان ألقن فيضا من الشعر الحديث فكأنما كان ما لقنته في السنوات الأولي الأساس لإقامة صرح اللغة وإعلاء بنيانهاوالوصول إلي كوامنها وجواهره وكنت كلية غزة هي الأرض الخصبة التي نمت فيها مواهبي والتي وجدت فيها ضالتي. أول من بشرني بأنني سأكون شاعرا أستاذي سعيد العيسي يوم كنت اقرأ أمامه نص لميخائيل نعيمة. * قلنا: كيف تحقق ذلك؟ ** قال: كتبت العديد من الأناشيد التي تتناول مأساة فلسطين وفرحت كثيرا لانتشار أناشيدي في صفوف اللاجئين ورغم ضيق وقتي وعملي الوظيفي فإني لم أنقطع عن التردد علي معسكراتهم أعتلي منابر أنديتها الثقافية ألقي قصائدي وأتمتع بتصفيق المصفقين ويسعدني التجاوب الذي أجده ودخلت مرحلة جديدة بقصائدي التي تضمنها - فيما بعد - ديواني "مع الغرباء". * قلنا: ماذا تذكر عن فترة عملك بصوت العرب؟ ** قال: انتقلت في 1954 من التدريس إلي الإشراف علي ركن فلسطين بإذاعة صوت العرب وصرت أستدعي كل ثلاثة أشهر إلي القاهرة لأجلس إلي زملائي في صوت العرب. ذلك الفريق المؤسس الذي رسخ صوت العرب كمعبر عن إردة التحول والدعوة إلي الوحدة والتحرير وكنت أسعد بالجلوس إلي زملائي السيد الغضبان ومحمد أبوالفتوح وسعد غزال ونادية توفيق وتراجي عباس ووجدي الحكيم وأمين بسيوني وعادل القاضي وحلمي البلك وغيرهم. * قلنا: ماذا تذكر عن أيام إقامتك الأولي بالقاهرة؟ ** قال: في تلك الأيام البعيدة التقيت بالعديد ممن كنت أتوق للقياهم: أحمد رامي ومحمود حسن اسماعيل وصالح جوت وأمين يوسف غراب وعبدالحليم عبدالله فاجأتني القاهرة بأنها تكاد تعرفني بأكثر مما يعرفني أهلي كثيرون هم الذين زاروني واحتفوا بي وتلاحقت بعد ذلك من الإذاعة المصرية والاذاعات العربية القصائد الملحنة من شعري ينطلق به فنانون كبار: فيروز ومحمد فوزي ومحمد قنديل وكارم محمود وغيرهم أكثر من مائة نشيد وقصيدة وأوبريت. * قلنا: ما رأيك في حال الشعر العربي الآن؟ ** قال: الواقع ان الحالة العامة في الوطن العربي تنعكس علي الشعر وعلي الرواية وعلي الثقافة بشكل عام والشعر عموما موجود في الوقت الحاضر بمعني ان الابداع موجود والمبدعين موجودون لكن صدي ما يكتبون هو الذي يعاني ولم يعد كما كان في الماضي لأن الحالة العربية تؤدي إلي ضعف حالة المتلقي وتجعله يهتم بشئون حياته اليومية اضافة إلي أن المجلات الثقافية قليلة وغير منتشرة والبرامج الثقافية أصبحت مهمشة وقليلة. أحب أن أؤكد ان الابداع والمبدعون بخير لكنهم لا يجدون الطريق أو السبيل - بسهولة - إلي ذائقة المتلقي واللغة العربية والثقافة العربية ولادة سواء في الشعر أو الرواية لكن الوضع العام للإنسان في الوطن العربي يحتاج إلي تأمل ومراجعة. * قلنا: هل لدينا شعر عربي. أم لدينا شعر في كل قطر عربي؟ ** قال: أنا أتحدث عن الشعر العربي المكتوب باللغة العربية وهي لغة القرآن. الحافظة لتراثنا وحضارتنا. أما الشعر المكتوب باللهجات فهو يؤدي دوره داخل كل قطر عربي وله من يستحسنه لكنني لا أعترف ولا أؤمن إلا بالشعر المكتوب بالفصحي السليمة وبالأوزان والتفعيلة العربية. * قلنا: أنت مقيم في القاهرة منذ سنين طويلة.. ماذا تعني لديك ثورة 25 يناير؟ ** قال: علي المستوي السياسي والاجتماعي فقد حققت هذه الثورة ما كان يريده الشعب المصري ومن حق الشعوب أن تحصل علي ما تريده وفضلا عن ذلك فقد أكدت الثورة اننا في الهم شرك علي حد تعبير أحمد شوقي فالمشهد العربي واحد: فالمعاناة واحدة والأمنيات واحدة وعودة الروح شملت كل الأقطار العربية حتي الهتافات والشعارات التي أعلنها ثوار مصر وجدت صداها في بقية عواصم الوطن العربي حتي ميدان التحرير في القاهرة وجد مثيلا له في عواصم عربية أخري.