حل الشاعر الكبير سيد حجاب ضيفاً علي معرض الكتاب في لقاء احتشد له الجمهور الذي استمع إلي سيرة حجاب الشعرية ثم الي مجموعة من قصائده.. اللقاء أداره د.أحمد مجاهد رئيس هيئة الكتاب الذي قال: حقيقة لا أعرف كيف أقدم شاعراً كبيراً وإنساناً عظيماً وثائراً ومناضلاً؟.. إنني أبحث عن صيغة مناسبة بإمكانها أن تفي بالغرض وتوفي شاعراً كبيراً حقه من حفاوة يستحقها ومديح يليق بمآثره. رأي د.مجاهد أن اختيار شعر العامية لسيد حجاب هو اختيار سياسي وفكري فلم يكن شاعراً مباشراً. بل وضع المضمون الأيديولوجي أمامه وسار خلفه. وعرف كيف يتواري المضمون الثوري خلف الشكل الجمالي. وتطرق إلي صراع العامية والفصحي الذي وصفه ب"لا صراع" وضرب مثلاً بالنشر الالكتروني والورقي حيث لا فواصل بينهما ويجمعهما هدف الوصول إلي القارئ. وركز رئيس الهيئة العامة للكتاب علي إنجاز حجاب في مجال الأغنية. وصنفه علي قائمة من لم يكتبوا الأغنية وإنما يبدعون الشعر المغني! د.مجاهد طلب من ضيفه أن يأخذ الحضور إلي براح الشعر وسيرة صاحبه التي تستطيع أن تضع الحضور في براح الإبداع.. وسأل مجاهد ضيفه عن سيد حجاب الذي لا نعرفه وكانت الإجابة هي رحلة طويلة اختصرها الشاعر الكبير في ساعتين تقريباً. انتقي فيهما من كنوز ذاكرته ما أبهر الجميع. تحية حجاب إلي الجمهور كان نصها: مساء الخير. والحق. والجمال. ونلتقي علي عشق وطن نحلم به حراً مستنيراً عادلاً.. نلتقي علي الانتماء لهذه الإنسانية العبقرية التي بلغت رشدها ودخلت إلي عصر الحكمة في ثورة المعلوماتية. نحن ننطلق الآن في اتجاه جنة الحكمة الأرضية فالحمد لله الذي أورثنا الأرض نتبوأ فيها من الجنة حيث نشاء. يصمت ويبتسم ويقول: زنقني د.مجاهد في الحارة الشخصية.. أنا شاعر علي باب الله والوطن والإنسانية. والله هو الحق. والوطن هو الخير العام الذي يجب أن نتقاسمه معاً بعدالة ورحمة. والإنسانية هي الجمال والسعي إلي الكمال فالله خلقنا في أحسن تقويم.. نحن أجمل مخلوقات الله. ويضيف: ولدت في نهاية الحرب العالمية الثانية. في المطرية علي ضفاف بحيرة المنزلة. ولذلك فأنا أنتمي إلي جيل الستينيات الذي وضع العالم في تساؤل حول الوجود وأشعل ثورة الشباب وهي البذور الأولي التي طرحت ما نحن فيه الآن. أنتمي إلي أسر الصيادين المتعلمين. درس والدي لبضع سنوات في الأزهر وعمل موظفاً صغيراً. واستطاع أن ينشئ مكتبة أتيح لي في طفولتي أن أنهل منها وخاصة في أوقات حظر التجول أثناء انتشار مرض الكوليرا عام 1947 فاقرأ الكثير من كتب فهمت أقلها ولم أفهم الكثير منها وبقيت في ذاكرتي الكثير منها. قرأت وأنا صغير ثقافات تقليدية. وجلست إلي القرآن والإنجيل. في الوقت الذي ساهمت فيه المطارحات الشعرية التي كان الأب يعقدها في المساء في ارتجال الشعر لأنجو من عملية استبعادي وأظل داخل الحلقة. كانوا يقولون إن والدي شاعر في صباه. وحين كبرت أدركت أن هم الحياة أبعده عن الشعر. وقد عرف "أبويا" من شقيقاتي أنني أكتب الشعر ونظراً لانتماء الأسرة إلي بيئة دينية كانوا يلقبونني بالشيخ سيد. طلب والدي أن يسمع مني فقرأت عليه بعض قصائدي. فقال لي: إنت شاعر بالسليقة. أعطاك الله هذه الموهبة لتحمده عليها ولحظتها فهمت أن لعبة الشعر وظيفتها الحمد ونصحني بصقل الموهبة بالدرس. وأعطاني دروساً في العروض وأنا في سن 11 سنة وكان يستخدم في تعليمي طريقة الأزهريين القدامي. وفي هذه السن كان الهم المصري العام مطروحاً كهم خاص. وكل البيوت تشارك في مظاهرات الاستقلال التام أو الموت الزؤام. أما مهاجمة الفدائيين لمعسكرات القاعدة في القنال فكانت تجعلنا نخرج نحن الأطفال لنهتف: السلاح السلاح.. الكفاح الكفاح. وفي ذلك الوقت كان منا من يذهب إلي الإخوان أو الوفد والسعديين وكان للإخوان ولمصر الفتاة بريق خاص عند من يماثلوننا سناً. فانضممت إلي الإخوان وصرت متميزاً بين شباب الدعاة أقول خطبي شعراً. وكنت قد بدأت خطواتي الشعرية علي عادة تربوية أننا نقدس الفصحي ولا نري العامية ابداعاً. بينما أعيش في وسط كله يغني بالعامية. يؤكد حجاب أن الشعر ديوان العرب والغناء ديوان المصريين. نغني في كل لحظة فالغناء حولي في كل مكان ويتسرب الوجداني في الوقت الذي كان الشعر هو ما كتب باللغة الفصحي باعتبارها اللغة المقدسة ولغة القرآن. ويقفز الشاعر الكبير إلي دراسته في المرحلة الثانوية ويقول: التقيت هناك بالأستاذ شحاتة سليم نصر مدرس الرسم وهي المادة التي تحولت حينها إلي هوايات. وكان مسئولاً عن الأنشطة الرياضية وكنت ألعب السلة وكرة اليد والسباحة وأمثل المنطقة في هذه الألعاب وخاصة "الباسكت" رغم قصر قامتي. ونشرت شعري في مجلة الحائط المدرسية وعرضت كتاباتي علي الأستاذ شحاتة بعد أن طلبها مني وهو من جيل حسن فؤاد المفكر. فتعلمت منه درساً مهماً. حين رجع إلي بعد مرور عدة أيام يقول: حبيت شعرك. أنا مبعرفش في الشعر. والأستاذ عبدالكافي مدرس اللغة العربية أكد علي أنه موزون ومقفي.. أنت تكتب عن مشاعرك.. لكن لو اتحبست فيها هتعرف إن مشاعر الإنسان محدودة. ممكن يكتب في المرة الأولي حاجة حلوة الثانية أحلي والثالثة هيبقي صنايعي..!! حواليك 30 ألف صياد جوه كل واحد فيهم 10 قصايد مش لاقيين يكتبوهم. ويقول حجاب معقباً علي نصيحة أستاذه: كأنه فتح أمامي كنزاً ولا كنز علي بابا. وكنت من الفرع المتعلم لأسرة صيادين. أعيش في مربع المتعلمين فبدأت أدخل البيوت وأسرح معهم في البحيرة ووجدت ما أشار عليه الأستاذ شحاتة. وما لاحظته علي الواقع أن الناس تقدس الفصحي وتحتقر العامية. ولكني حين قرأت ليوسف إدريس. والشاروني. وحقي. اكتشفت أنهم يكتبون السرد بالفصحي والحوار بالعامية ففعلت مثلهم وابدعت قصائد السرد فيها بالفصحي والحوار بالعامية وضاقت بي الفصحي فكتبت قصائد كاملة بالعامية. وإلي مدينة الثغر يصطحب حجاب ضيوفه علي قارب كلماته: خرجت إلي الإسكندرية ومن مدينة الصيد الصغري إلي الكبري التقيت بجاليات أجنبية لديها منتديات وصحف مثل الجالية السورية والأرمن وغيرها. وكانت الإسكندرية تكاد تكون العاصمة الثقافية لمصر في ذلك الحين فانفتحت أمامي نوافذ كثيرة للمعرفة وكنا نتابع سينما ومسرح محمد علي مسرح سيد درويش حالياً ونتفرج علي الباليه تفتحت مداركي وكان حلمي دراسة العمارة فرسبت في اعدادي عمارة وحين انتهيت من الدراسة ولد في داخلي حلم بديل ففطنت إلي أن الهندسة طريقي للعمل والعامية طريقي للشعر. بعد سبع سنوات من العزلة والتعلم نقلت إلي القاهرة التي سأحكي عنها بعد قليل ولكني أريد التوقف قليلاً عند محطة تانية هندسة فقد حدثت ثلاثة أشياء جعلتني أقرر هجر الهندسة: الأولي أن فوزي العنتيل في مجلة الرسالة الجديدة نشر لي مختارات شعرية في بريد الشعراء مع كلمة جميلة كانت محفزة. والثانية: أحد زملائي الذي أرسل أشعاري إلي البرنامج الثاني من خلال حلقات "كتابات جديدة" التي كانت تستضيف محمد مندور ووجدت الدكتور مندور يستغرق خمس دقائق في تعليقه علي أشعار طالب كلية الآداب وقضي بقية الساعة يتغزل في أشعاري ويشيد بحسي التجريبي ونبهني لإمكانية أهمية ما أفعل. والثالثة أن نفس الصديق أرسل أشعاري إلي مجلة الشهر التي يصدرها سعد الدين وهبة ويرأس تحريرها عبدالقادر القط ونشر لي ثلاث أغنيات بجوار شاعر كان من أوائل من التقيت معهم في القاهرة وهو عفيفي مطر. فقررت التوقف عن دراسة الهندسة واندفعت لدراسة الأدب من خلال الندوات والمراكز الثقافية والمسرح وكنت أذهب صامتاً أسمع فقط وكان في إحدي الندوات شاعر يحضر بملابس الخدمة العسكرية ويظل صامتاً مثلي فتلتقي أعيننا باستحسان أو استهجان. وفي يوم تم تقديم الشاعر المجند عبدالرحمن الأبنودي فألقي قصيدته بعد الندوة وتقدمت إليه محيياً وعبرت له عن رأيي في القصيدة بكلمات نقدية وذهبنا إلي باب اللوق مع محمد إبراهيم أبوسنة وكان طالباً بكلية اللغة العربية يرتدي الزي الأزهري وسمير سويلم. وكانت الألفة هي ما تشمل جلسة يقودها فؤاد قاعود الذي طالب كل واحد منا بكلمة بعد القاء القصائد وكلما التفت لي الأبنودي أقوم وأقدم قراءة نقدية للقصيدة. إلي أن وقف فؤاد قاعود وسأل الأبنودي عني فقال له: واحد بيحب الشعر فصاح قاعود: انت بتكتب شعر وطلب مني أن أسمعهم فأسمعتهم قصيدة علاقة أزلية وصار بيت فؤاد قاعود بعدها بيتنا فتعرفت علي والدته وأخته ووالده.