المذبحة التي تعرضت لها مدينة حلب ، أقدم مدن الشام ، وأكبرها وأكثرها عراقة وحضارة على مدار الأسبوع الماضي وحتى الآن مروعة بكل المقاييس ، صحيح أن هذه الحملة ليست جديدة من الطيران الروسي وطيران طاغية دمشق بشار الأسد ، ولكنها المرة الأولى التي يتعمد فيها علانية استهداف المستشفيات والأطباء ومخازن الأدوية بعد أن دمر مساجدها ومدارسها وإداراتها الخدمية بالكامل بهدف تركيع بقايا الشعب السوري الذي ما زال صامدا هناك ، أو بإجباره على تفريغ المدينة من أجل إعادة تشكيلها طائفيا وعرقيا ، حيث تمثل حلب مركز الحضارة العربية السنية في الشام ، كان منظر أشلاء الأطفال والنساء وهم يستخرجون من تحت الأنقاض مفزعا لكل ذي ضمير ، وملحميا بامتياز . رغم أن ثوار سوريا يسيطرون على مدن ومناطق واسعة من البلاد شمالا وجنوبا وشرقا وغربا ، إلا أن حلب تمثل معنويا حاضرة الثورة ، ورمزيتها ، ولذلك كان تركيز بشار الأسد على سحقها وتسويتها بالتراب لإعطاء رسالة بأنه ماض حتى النهاية في تركيع شعبه ، وأنه مستعد لإبادة الشعب السوري بكامله وتسوية مدنه بالتراب دون أن يقبل أي فكرة لتداول السلطة أو نقل السلطة إلى هيئة حكم جديدة من السلطة والمعارضة لا يكون هو حاضرا فيها أو القبول بديمقراطية حقيقية لا يسيطر عليها عسكره واستخباراته ، أصبح رأسه أغلى من سوريا بشرا وحجرا وتاريخا ومستقبلا ، وهكذا يفكر الطغاة عادة ، غير أنه لا يعرف في تاريخ العرب الحديث طاغية بلغ في دمويته هذا المستوى الذي اقترب من نصف مليون قتيل وخمسة ملايين مشرد في بلاد العالم ، بل إن حروب العدو الإسرائيلي وعدوانه على جميع الدول العربية المحيطة لم يقتل فيها العدو نصف ما قتله بشار من شعبه السوري فقط ، ولا حقق مستوى الدمار الذي حققه بشار لمدن سوريا ، حيث سواها بالتراب ، إلا قليلا ، ولا تعرف مستويات القتل هذه في الوطن العربي إلا في حقبة الاحتلال الفرنسي للجزائر . بدأت الثورة السورية سلمية خالصة ، هتافات في الشوارع وأغاني وأهازيج ورقص يحمل حلما بالحرية والديمقراطية في أثناء رياح الربيع العربي ، قابلها بشار بالرصاص والدبابات ، وقتل أطفال المدارس المتظاهرين في الميادين بالرصاص بدم بارد ، ورفض أن يستجيب لأي شيء ، كما لم يترك أي نافذة ولو صغيرة لمعارضة سياسية أو احتجاجات في الشوارع ، فبدأ بعض الشباب الثائر يحمل السلاح ليدافع عن نفسه ، ثم بدأ ضباط وجنود من الجيش يشعرون بالغبن وسيطرة قيادات طائفية على القرار العسكري لسحق ثورة الشعب ، فانضموا للمحتجين وشكلوا نواة جيش سوري حر ، ثم اتسع الأمر ونجح الجيش السوري الحر في تحرير مناطق كثيرة من سوريا واقترب من العاصمة ، فاستغاث بشار بحلفائه الطائفيين فدخل الإيرانيون ودخلت ميليشيا حزب الله اللبناني وميليشيات عراقية شيعية وأخرى من أفغانستان ، من أجل دعم وحماية النظام العلوي الطائفي ، بالمقابل تلقى الجيش الحر دعما بالسلاح من بعض دول الخليج العربي التي شعرت بخطورة سيطرة إيران ومشروعها التوسعي على سوريا ، وبدأت الفراغات والتشققات تظهر في الخريطة السورية ، فاستغلها تنظيم داعش العراقي فتمدد في سوريا ووجد مواضع أقدام له ، ثم ظهرت حركة النصرة الموالية للقاعدة ثم عشرات التنظيمات الأخرى أغلبها سوري ، وقد ترك بشار لداعش عددا كبيرا من المواقع والمدن استولى عليها بسهولة غريبة ، قبل أن يكتشف الجميع أن بشار "لعبها" بمكر بالغ ، لكي يقدم نفسه للعالم بوصفه يحارب الإرهاب ، وأنه لا ثورة شعبية في سوريا وإنما تنظيمات إرهابية مثل داعش ينبغي مواجهتها ، وعندما هزم حلفاء بشار رغم كل هذا المكر وكل هذا الدعم ، واقتربت هزيمته ، فتح أبواب بلاده للاستعمار الروسي ومنحه اتفاقية مذلة تجعل بوتين وجيشه أسيادا في الأرض السورية ، بتحركاتهم وقراراتهم ومعسكراتهم دون أي تدخل من أي جهة سورية . رفض بشار أن يتنازل لشعبه لكي يشركه في الحكم أو يمنحه حقه في الحرية والكرامة والاختيار السياسي ، ولكنه قبل أن يتنازل للإيرانيين والروس وحزب الله اللبناني الذين أصبح أسيرا لهم حاليا ، وهذه عقلية الطغاة وحساباتهم السياسية ، الشعب هو مشروع عدو ، وينبغي قمعه وإذلاله وإحكام السيطرة عليه بمنظومة استخباراتية وعسكرية وأمنية مروعة ومخيفة لضمان تركيعه وحشره في زاوية الهمس أو الصمت التام . الجديد في مذبحة حلب هو الموقف الأمريكي ، أو بمعنى أصح انكشاف الموقف الأمريكي الذي كان يقدم نفسه صديقا للشعب السوري ومعاطفا مع ثورته ، لأن واشنطن رفضت التدخل لوقف المذبحة ، كما أصرت على منع الثوار من الحصول على مضادات الطيران لوقف القصف الدموي ، بل أعلنت عن اتفاق مع روسيا لفرض منطقة هدنة في دمشق واللاذقية فقط ، وهي مناطق سيطرة ونفوذ النظام عسكريا وطائفيا ، بينما استثنت منها حلب في إشارة واضحة لموافقتها على استمرار المذبحة ، ومن الواضح أن الاستراتيجية الأمريكية انتهت إلى تقسيم سوريا ، وصناعة "جيب" كردي في الشمال يكون في خاصرة تركيا لاستنزافها وحصارها ، لذلك تدعم بسخاء كبير الميليشات الكردية السورية في الشمال وفي حلب كما أقامت قاعدة عسكرية وجوية في مناطقهم من أجل تعزيز دعمهم ، كما تركز روسيا على صناعة جيب آخر علوي في الشمال الغربي ، يكون مركزه اللاذقية عاصمة الطائفة العلوية ومخزنها البشري والمالي ، ويمكن أن تتصل بالمحيط العلوي التركي أيضا لتشكل خاصرة طائفية بالغة الخطورة لتركيا في جنوبها الغربي . تجربة الشعب السوري مع طاغية ورث الحكم عن أبيه بحماية طائفة تسيطر بالكامل على المؤسسة العسكرية والأمنية والاستخباراتية بقدر ما هي مؤلمة ودموية ، بقدر ما أعطت من دروس وعبر للجميع في المنطقة ، شعوبا وحكاما ، فنحن أمام أجيال جديدة تصر على انتزاع حقها في الحرية والكرامة ، وعلى الجميع أن يفكروا بلغة العقل والحوار وقواعد السلمية في الصراع السياسي ، شعبا وسلطة ، لأن البديل لذلك أو الاستسلام لغرور القوة ، أن يندفع الجميع في دوامات مروعة ، يخسر فيها الجميع ، وتخسر فيها الأوطان . لا يوجد لدي أدنى شك في أن الشعب السوري سينتصر في النهاية ، وسينتزع حقه في الحرية والكرامة وسيعيد بناء بلاده ، وهو شعب عريق في الحضارة والإبداع ، وليس لدي شك في أنه سينجح في إنهاء مشروع الطاغية بشار الأسد وعصابته ، وسيطرد طفيليات الإرهاب الوافدة إلى خارج أرضه ، ولكنا نسأل الله أن تقل تكاليف التحرر ، وأن يحميه من المزيد من الدمار والهلاك ، وأن يعجل له بالنصر والفرج .