منذ عرف الناس الزواج كنظام اجتماعى يحدد العلاقة بين الرجل والمرأة وميثاقًا غليظًا يربطهما معا أمام الله ولم يتم حسم السؤال الأشهر: أيهما أنجح زواج العقل أم القلب؟ زواج تقليدى باختيار الأهل ثم توافق الطرفين وينساب الحب بينهما هادئا بعد الزواج أم زواج الحب الجارف والإصرار على شخص المحبوب رغم العقبات والتفاوت بينهما فى كل شىء؟ وإذا كان التليفزيون هو صندوق الفرجة، الذى يعرض مسلسلات وأفلاماً بلا حصر تناقش هذا السؤال بأشكال متعددة وعادة ينتصر لزواج الحب لأنه أكثر إثارة ويحتوى على الكثير من المواقف الدرامية المؤثرة التى تجعل العرض التليفزيونى جذاباً وغير متوقع، فإن صندوق الدنيا يحتوى على قصص من الواقع أكثر إثارة وغرابة والحقيقة أن صندوق الدنيا ينتصر لقصص الزواج التقليدى فهو زواج آمن ولديه الكثير من الأعمدة، التى تسانده وتجعله يصمد لهبات الحياة وأعاصيرها. أهم أعمدته رضا الأهل ومباركتهم ومشاركتهم بنظرتهم الثاقبة وخبرتهم فى الاختيار ثم توافر عناصر التكافؤ والتناسب التى لها الغلبة على المدى الطويل، فالعلاقة الزوجية هى علاقة ممتدة على مدى زمنى طويل وخلال هذا الزمن تتبدل الأحوال يتغير الشكل وتتغير الظروف وتطرأ مفاجآت قدرية، ولكن يظل التكافؤ والتناسب الجوهرى قائما، أما زواج الحب القائم على الانبهار بالشكل الخارجى مثلا فإنه قد ينتهى بالتغيرات التى تطرأ بمرور الزمن. زواج الحب فورة بركان أما زواج العقل فهو انسياب نهر هادئ محمل بالخصوبة والحياة، زواج الحب لحظة جاذبية صاعقة أما زواج العقل فهو جينات وراثية مضمونة، زواج الحب طبخة جديدة من عناصر غير مؤتلفة وزواج العقل طهى الأم الذى لا يعلى عليه. تثبت الدراسات الاجتماعية فى الشرق والغرب ومشاهدات الواقع أن الزواج التقليدى هو الأنجح والأكثر استمرارًا، كما أنه أساس قيام علاقات الأسر الممتدة وتشابكات المجتمع القوى الذى يفرد ظله على كل محتاج وضعيف، فهو تناسب أسر وتداخل عائلات تقوى نسيج المجتمع وتثبت أركانه. ولكن السؤال الأعمق هنا هو لماذا لا يستمع الناس لصوت العقل ما دام هذا هو الوضع الأمثل على مدار التاريخ؟ هل اتعظ المحبون مما جرى لقيس بن الملوح الذى لقب بمجنون ليلى؟ أو بمصرع روميو وهزيمة أنطونيو؟ ولماذا تنازل ملك إنجلترا عن عرشه فى سبيل زواجه بالمرأة التى أحبها وكانت مطلقة أمريكية (ولم تكن جميلة) ولماذا تصر فتاة عاقلة رزينة على الزواج بشاب بسيط وترفض العريس اللقطة الذى يرشحه لها أهلها ويناسب وضعها الاجتماعى؟ لاتسير الحياة دائما بالعقل وحده لأنها لو استمرت هكذا لأصبحت جامدة صلبة لا تتغير، وإرادة الله أن يكون جوهر الحياة هو التغيير والتداول (وتلك الأيام نداولها بين الناس) ومثلما خلق الله الأنهار العذبة المنسابة فى هدوء ووداعة خلق أيضًا البراكين الثائرة التى تقذف بحممها من جوف الأرض إلى سطحها جالبة معها دمار ومتاعب ثم فوائد وخصوبة وتغيير. مفتاح الحياة الحركة الدائبة والتغيير وسبحان من له الدوام وحده من يغير ولا يتغير، ولذلك ومهما كانت النصائح السديدة سيظل الحب وسيلة للتغيير والحراك الاجتماعى. وسوف تخطو تلك الغادة الهيفاء بجمالها الرائع لتخطف قلب ذلك الشاب الثرى ابن الطبقة العليا فيجن بها حبًا ويفضلها على ابنة عمه المتصنعة الباردة، بعد الزواج قد تحدث اختلافات متوقعة، ولكن أولادهما سوف يمنحون الحياة طبعة جديدة وبصمة مختلفة، سوف يصعد درجات من السلم الاجتماعى فرع من العائلة الفقيرة بينما يهبط فرع من سلالة الحسب والنسب درجات عكسية فيعتدل الميزان ولا يميل إلى ما لانهاية لحساب طرف واحد. الحياة لا تتحيز إلا لمصلحتها هى ومن مصلحتها التغيير والتفاعل ووضع مقادير مختلفة لصنع توليفات جديدة، سوف يخفق قلب المرأة الثرية للشاب الشهم ذى المواقف الجريئة فتختاره ويتقاسمان معا شجاعة الفقراء ونعومة الأثرياء، ربما لأن حياتها فى ظل الوفرة لم يكن ينقصها سوى لذعة الحب. عدنا مرة أخرى للمربع الأول فوجدنا أن زواج الحب وزواج العقل فى كل منهما خير حسب وجهة نظر أصحابهما والظروف المحيطة بهما، ولكن المعيار الوحيد الواجب اعتباره هنا هو الصدق. الصدق ذلك المعنى الرائع الذى نفتقده عبر عقود من الغش والتدليس والتزوير تسللت حتى لمشاعرنا، نعم يخدع الكثيرون أنفسهم عندما يتوهمون الحب أو ينخدعون بمن ينصب عليهم باسمه وتكون الطامة الكبرى زواج فاشل وخاسر ومصائب جديدة تضاف لحالات الفشل الاجتماعى التى تمتلئ بها أروقة المحاكم وعيادات أطباء النفس. الصدق فى أحد معانيه هو الانضباط والبعد عن العشوائية فلا نبحث عن الحب فى الطرقات ومدرجات الجامعة ثم نلقى بأوهامه على أول عابر سبيل، هذا حب مغشوش ومكتوب عليه الفشل، ولكن نسير بخطى واثقة دائمًا فى طريق النور والصدق، فإذا كنت فتاة فإن قلبك هو جوهرة حياتك التى تضنين بها على من لا يستحقها وتترفعين بمشاعرك الراقية عن حب الشوارع ومغامرات الطريق. فإذا تقدم لخطبتك رجل مناسب وزكاه أهلك وارتاحت له نفسك فأنت ممن اصطفاهم الله وهيأ لهم سبيل الرشد والسعادة بشكل آمن ومدعم من الأهل والمجتمع فلله الحمد على هذه النعمة. ولذلك لا أفهم سر نفور بعض الفتيات من هذه الطريقة التقليدية فى الزواج وكأنها مصممة أن تنتظر حباً قد لا يأتى وتصر على أن تضع العربة قبل الحصان، على أساس أنه لا توجد سوى قاعدة واحدة (الحب يأتى أولا) مع أن العكس صحيح جدا بل هو الأقرب للصواب (الزواج يأتى أولا ثم يتبعه الحب). يحدث أحيانا أن يأتى الحب أولا، فهى تتبادل الإعجاب العفيف مع ابن عمها أو جارها أو زميلها فى العمل ثم يتوج الإعجاب بالزواج ومع وجود ذلك الشعور بالتقارب بينهما يتم التنازل عن بعض الشروط المادية وتسهيل الزواج وعادة عندما تكون الفتاة مقتنعة بمن تزوجته تفعل المستحيل من أجل إنجاح الزواج ويكون ذلك الشعور المتبادل هو الحافز الأول لاستمرار الزواج. الحب أم العقل أساس الزواج؟ كثيرا ما يكون العقل هو الخطوة الأولى التى تفتح طاقات الحب والسعادة بعد الزواج وإذا جاء الحب أولا وتوجناه بالزواج فإن ذلك يحدث أحيانًا. [email protected]