(1) بات واضحا أن الخلافة في معناها القرآني القيمي هي عقد يجمع المنظومة الأخلاقية الإسلامية العامة التي ترسم ضوابط تعامل الإنسان ومجتمعه مع الكون والبشرية. ومن ثم يتساءل البعض: ماذا عن السنة الشريفة، وقد تحدث النبي عن الخلافة صراحة في عدد من الأحاديث، فهل شرع النبي الخلافة؟ وهل اعتبرها نظام حكم؟ أم أن حديثهفي هذا الجانب هو بالنبوءة ألصق؟ هنا من الضروري الإشارة إلى موقع النبي من القرآن، فللنبيوظائف عدة بالنسبة للوحي. أولها: التبليغ”يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ“ (المائدة، 67)، وثانيها: التبيين والتفسير:”وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ“ (النحل، 44)، ثالثها: التشريع. ومن التبليغ ما أخبر به النبي من عجائب الأمور المستقبل (النبوءات) كفتح بلاد فارس والروم وهلاك قيصر وكسرى وفتح قسطنطينية وكلها جرت بعد وفاته صلى لله عليه وسلم، ومن ذلك أيضا ما أخبر به من عجائب الزمن الأخير ويوم القيامة وغيرها. (2) تعد أحاديث الخلافة من النبوءات التي تنبأ النبي بظهورها بعد وفاته، كما في حديث النعمان بن بشير عن حذيفة رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم“ :تكون النبوَّةُ فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها؛ ثم تكون خلافةً على منهاج النبوة، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء الله أن يرفعها؛ ثم تكون ملكاً عاضًا فيكون ما شاء الله أن يكون، ثم يرفعها إذا شاء الله أن يرفعها؛ ثم تكون ملكًا جبرية فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعهاإذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة...”(أحمدوالطيالسي).الخلافة هنا ليست تشريعا مفروضا بل نبوءة مستقبلية، وإلا لكان الملك العاض والملك الجبريتشريعا كذلك، وهذا ما لا يقول به عاقل، فالظاهر أن هذه الأخبار جاءت على سبيل النبوءة فليس يجوز في حق النبي أن يشرع الظلم أو الجبرية. وقد نص حديث آخر على مدة الخلافة حيث قال النبي: “الخِلافة في أمتي ثلاثُون سنَة، ثمّ ملْكا بعد ذلِك" (أحمد والترمذي من حديث سفينة)" وقد تجشم العلماء تحقيق التطابق بين هذه المدة وبين مدة الخلفاء الراشدين: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم،والأمر في ذلك يسير، وهذا الحديث نص في تقرير خلافة علي بن أبي طالب وأنه رابع الراشدين، ومن العلماء من أدخل الستة الاشهر التي تولاها الحسن بن علي على أهل العراق حتى تتم مدة الثلاثين سنة. (3) في هذه الأحاديث لا يشير النبي إلى نظام حكومة مؤسسية تسمى "الخلافة" وإنما إلى منهاج حكومة هو "منهاج النبوة"، وهذه الحكومة أخذت لقبها من مجيئها خلف النبي، و يمكن تحقيق معاني هذه الحكومة في كل عصر ومصر، وهذا هو الجوهر الحقيقي للخلافة في القرآن والسنة: "ثم تكون خلافةً على منهاج النبوة فتكون ما شاء الله أن تكون"، وفي رواية أبي يعلى والبزار بيان حقيقة هذه الخلافة: "إنه بدأ هذا الأمر نبوة ورحمة، ثم كائن خلافة ورحمة، ثم كائن ملكا عضوضا، ثم كائن عتوا وجبرية...". الفيصل في طبيعة الحكومةإذًا هو الرحمة الغالبة، فكل حكم استجمع منظومة الرحمة فقد نهج منهج النبوة،لأنها فضيلة تستلزم قبلها سيادة الحق والعدالة وغلبة المساواة؛ إذ الرحمة من ضروب الإحسان، وهو لا يسبق الحقوق وإنما هي مرتبة فاضلة فائقة تأتي بعد استيفاء الحقوق بالقسط. لقد استخدم النبي مصطلح الخلافة بصيغته اللغوية الوضعية وهي ولاية المرء للأمر بعد من سبقه على سبيل النبوءة بالمنهج المتبع من بعده، لذلك جاءت الصفات المغايرة لا في معني الخلافة ولكن في صفتها، فتبدل المنهج من بعدها إلى "الملك العضوض" و "الملك الجبري". ودليل ذلك حديث البخاري ومسلم”كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء كلما هلك نبي خلفه نبي، وإنه لا نبي بعدي، وسيكون خلفاء فيكثرون..." الخلفاء سيكثرون وسيكون منهم الراشد المهدي الرحيم، ومنهم العاض الظالم، ومنهم المتعسف الجبار، ولكن الخلافة الأخلاقية ستظل محتفظة بمعناها السامي وظلها الإنساني، وثمراتها الزاهرة في الديانة والمجتمع، والعمارة والحضارة، والإصلاحوالأخلاق. (4) من الجلي أن النبي لم يشرع نظاما سياسيا يسمى ”الخلافة"، وإنما تنبأ بظهور خلفاء له يقاربون منهاج النبوة، وهو في هذا تابع للقرآن في تقرير معنى الخلافة بأصلها الوضعي وجوهرها وخصائصها الأخلاقيةوالإنسانية، ويرد هنااستشكالان:الأول: حدد النبي الخلافة في ثلاثين عاما حتى تكون خلافة في آخر الزمان، فلا يمكن أن تتحقق الخلافة بعد مضي الثلاثين عاما. الثاني: هل يمكن أن يحقق الملوك والأمراء معنى الخلافة. وجواب ذلك في تقرير واقعية النصوص الإسلامية ودقتها التصويرية، فالنبي عند إشارته إلى الخلافة أشار إلى ظهور الخلفاءمن بعده على منهاج النبوةحيث يطبقون الصورة البشرية الواقعية الأكمل لقيم النبوة، فالخلافة باعتبارها الزمني والأخلاقي والسياسي هي سياسية بشرية للمجتمع الإنساني وفق منهاجالنبي، مع وحدة بلاد الأمة المسلمة في زمنها واجتماع المسلمين على خليفة واحد وتحقيق قوله تعالى "إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً"(الأنبياء، 92) وعلى هذا، فغياب بعض معاني الخلافة لا يمنع من تحقيق البعض الآخر.وعلى سبيل المثال، لم يزل العلماء والمسلمون يطلقون على "عمر بن عبد العزيز" الخليفة الراشد، وقد كان من الأمويين الذين ورثوا الحكم جبرا وعضوا عليه، ولكنه لمّا حقق معنى الخلافة بالإصلاح والعدالة استحق لقب الخليفة لمقاربته منهاج النبوة. (5) وبالمثال، أطلق العلماء على ملوك الأمويين والعباسيينوسلاطينالعثمانيينلقب "خلفاء" لجمعهم الأمة الإسلامية أو غالبيتها ―ولو اسميا― في ظل قيادة رمزية موحدة وهذا الاتحاد أحد الأركان الأساسية في النموذج الكامل للخلافة. ففترة الثلاثين عاما ليست بحجر عثرةولا بمانع من استلهام نموذج الحكم الراشد في الخلافة الراشدة وتطبيقه علىيد أي أمير أو ملك أو سلطان أو رئيس أو رئيس وزراء في إمارة أو مملكة أو سلطنة أو جمهورية، وكلما اقترب الحاكم من جوهر الخلافة القرآنية والطريقة النبوية والسياسة الشرعية كلما كان جديرا بلقب الخليفة. وهذه دعوة للملوك والأمراء والرؤساء المسلمين أن يقاربوا نموذج الحكم الراشد بعيدا عن الاستبداد بالرأي، والظلم في الحكم، والتعسف في السلطة، مع الحرض على نصر قضايا المسلمين ورفع المظالم عنهم، حتى لا يدعوا شباب الأمة صيدا سهلا في يد المتطرفين يتلاعبون بعواطفهم ويعدونهم ويمنونهم بدولة الخلافة على بحيرات من الدم، وشنيع الجرائم من القتل والسلب وانتهاك الحرمات، وهي كبائر وفظائع يتفطر لها قلب المسلم، وليس ببعيد إذا صدقت النوايا وصحت العزائم أن تتوحد بلادنا في اتحاد يشبه تجربة الأوربيينفي الاتحاد الأوربي،أو الاتحادات الفيدرالية، وما شاكلهاوهي نماذجعصرية تحقق بعض معاني الخلافة العامة كما سبق بيانها في المقال السابق.