عقد مؤخراً مؤتمر أدباء مصر فى دورته الثلاثين فى مدينة أسوانمسقط رأس العديد من الأعلام على رأسهم عملاق الأدب العربى عباس محمود العقاد، وعميد التربويين العرب الدكتور حامد عمار، والدكتورة سعاد ماهر رائدة علم الآثار الإسلامية ... كانت أياما مشرقة.. من حسناتها التقاء المبدعين فى صعيد واحد يتبادلون الخبرات والأخبار والترحاب فيما بينهم، وهذه الحسنات تنسينا سلبيات هذه المؤتمرات من المجاملات، والشللية التى تدفع على السطح كل إبداع سطحى وركيك وتوارى المبدعين الحقيقيين المنتشرين فى بر مصر التى لا ينضب معينها، ناهيك عن المؤتمرات والندوات والأمسيات التى تشبه ضجيج الطحين والتوصيات التى لا ينفذ منها شىء على الإطلاق منذ المؤتمر الأول الذى عقد فى مدينة المنيا برئاسة الراحل الدكتور شوقى ضيف، ويهون من هذا كله وجود وجوه مبدعة حقيقية التقيناها على هامش هذا المؤتمر، وسوف نستعرض نماذج منهم على عجالة فى السطور التالية وعلى حلقات تحت عنوان "ورود على هامش مؤتمر أدباء مصر"، وندين لمصطلح "الورد" إلى استاذنا الدكتور حلمى محمد القاعود، وسوف نبدأ بالشاعر العريق جميل محمود عبدالرحمن، رائد شعراء الجنوب وأغزرهم إنتاجاً، ورغم إقامته فى مدينة سوهاج إلا أنه استطاع الولوج إلى خارجها بأبداعه الصادق الذى يغزو القلوب وشخصيته المبهرة التى تشرف أى محفل أدبى يرتاده وقاموسه الشعرى الثرى المفعم بصدق التجربة الشعرية، ولذا كرم بما يليق وحصل علي العديد من الجوائز أهمها جائزة الدولة في الشعر عام 1995 وكان أول شاعر صعيدي يحصل عليها، وقد صدرت أعماله الكاملة الشعرية مؤخراً عن الهيئة العامة لقصور الثقافة والتي تضم 19 ديواناً. برز اسم الشاعر جميل محمود عبدالرحمن فى نهاية الستينيات، وقد قدمه عدد من النقاد والشعراء بعدما توسموا فيه نداء ربة الشعر له وهم: فوزى العنتيل، ومحمد الجيار، وصلاح عبدالصبور، وأحمد سويلم، وفاروق شوشة، وأحمد هيكل، وعبدالعال الحمامصى، وعبدالعزيز الدسوقى ..لكن العلامة الفارقة فى حياته حينما تناوله الأستاذ الدكتور حلمى محمد القاعود فى كتابه الأهم "الورد والهالوك.. شعراء السبعينيات فى مصر" حينما قارن بين أصالة التجربة وتطرف الحداثة فأراد أن يبرهن على نماذج أصيلة فى مقابل نماذج مبهورة بكل من ينتهجه الغرب ولو على حساب هويتنا العربية الإسلامية وحضارتنا المجيدة الممتدة عبر مئات السنين فقال عنه د.حلمى القاعود: "أما تجربة الشاعر "جميل محمود عبدالرحمن" فتنبع من حديث العين، حديث الكلمة"... وعن موحيات "العين" ودلالاتها فى رؤية الشاعرن وسياق تجربته.. وخطابه الشعرى يقول د.حلمى القاعود .. مفسراً رموز الشاعر، ومضيئاً شفراته اللغوية "العين" تعبير عن الدموع والبكاء، وتتردد كثيراً فى أبيات الشاعر وسطوره، وتزدحم بعض القصائد بلفظة العين ومفرداتها، ويستخدمها الشاعر لمعان شتى، فهى رمز الحزن على الوطن وما أصابه وما جرى له، وهى أساس الرؤية والوعى والحكم على الأمور، وهى حالة تظهر من خلالها معالم الرضا والسخط والاتفاق والاختلاف وهى محط للحركة والمؤاخذة ومجال الهزيمة والانتصار، وهى رمز للرثاء الذى يشمل الشعراء الراحلين عادة، وفى هذه المراثى ما يشبه النواح والعديد على ما يحدث للوطن ويجرى فيه".
واستشهد القاعود بقول جميل محمود عبدالرحمن فى لغة رامزة آسرة وتجربة صادقة مؤثرة من قصيدته "الهروب إليها".. هارباً منك ...أعدو لعينيك تنثر فى لحظات الضياع رذاذاً مريراً وموجاً يمد الهوى فى العروق يرد حسيراً وتقذفنى كل أيام الخائبات ..شراعاً كسيراً ولا شىء إى لأنى أحبك منذ أقالوا نياشين حسنك من أعين العاشقين الأسارى
ومن سمات أصالة التجربة فى شعر جميل عبدالرحمن – كما يرى القاعود ..ظاهرة توظيف التراث واستدعاء الرمز التاريخى فى أزمانه المختلفة بدءاً من أول الخليقة والتاريخ المصرى القديم حتى التاريخ المصرى الحديث مروراً بالجاهلية والإسلام وما حمله الخيال رموزاً أسطورية عربية وأجنبية.
ومازال جميل عبدالرحمن ينتقل من محطات إلى أخرى مكللة بالنجاح حيث حصل على عدد من الجوائز أهمها كأس القباني، وجائزة المجلس الأعلى للثقافة وجائزة عبدالعزيز سعود البابطين للإبداع الشعرى، وميدالية سيناء التقديرية الذهبية، وجائزة الدولة التشجيعية 1996. على شواطئ المجهول 1971 عذابات الميلاد الثاني 1973 لماذا يحولون بيني وبينك 1981 أزهار من حديقة المنفى 1981 تموت العصافير لكي تبوح 1982 ابتسامة في زمن البكاء 1986 وأمام تشتتنا نعترف 1992 في مدينة الوجوه القصدير 1993، وآخر ديوان صدر له "الغروب فى رائعة النهار".
ويمثل له الصعيد الكثير فقد فضله سكناً ومقاماً مع أنه كان بإمكانه المكوث فى القاهرة التى تلتقى فيها الضواء والشهرة والانطلاق وفى هذا يقول: "نحن في الصعيد. وعلي ما نعيش فيه من جفاف وما كان يلقاه الصعيد من الإهمال في العصور البائدة والقريبة. نحيا في صفاء وحالة تأمل وتواصل مع الناس. كل هذا يمنحني الفرصة .. والوقت متسع للقراءة والتأمل ثم يكون المردود أن أبدع. ثم ذلك الإحساس أنك مبعد يجعلك تشعر أنك تتعرض لظلم أو تجاهل. كل ذلك أضعه خلفي ليكون دافعاً للإبداع والإنتاج".
والشاعر جميل عبدالرحمن ضد كل ما لا يتلائم مع طبيعة القصيدة العربية وضد المناهج المستوردة التى أضرت بالقصيدة عندنا ولكنه لا يمانع من التجديد النابع من طبيعتنا العربية، وهو فى هذا صريح شديد الصراحة لا يداجن أو يداور وفى هذا يقول: "التجديد في ظني هو العمل علي تعصير أو عصرنة التراث .. أما التمرد فهو يهدم المسلمات. الشعر كما أراه معجون بالموسيقي، وقصيدة النثر تقع في إشكالية" قصيدة ونثر"، ورغم ذلك أنا لا أعاديها لأن هناك جماليات تقدمها. ما يعيبها أنها لم تقدم النموذج الذي نستطيع القياس عليه.. القصائد متشابهة، ولكني لست ضدها وأكتب ما أعتقد أنه الشعر وألتزم بالعروض الخليلي سواء في القصائد الكلاسيكية أو في قصائد التفعيلة، وبصفة عامة لا صراع مع أحد لأن حركة التاريخ تغربل وتفرز.. ولا أنكر أن هناك نماذج من شعر العامية في قصيدة النثر جيدة وبها مناطق إنسانية نشعر بها وتلمس وتراً إنسانياً في قلوبنا.. المهم أن يكون هناك شعر". ***** وقد تنوع شعر جميل محمود ليشمل كل الموضوعات، ولكنه توسع فى الحديث عن هوم أمته العربية التى تتعرض للجراح المثخنة، ويتكالب عليها اللئام من الأمم التى تطوقها بتواطؤ "ملوك الطوائف" سفراء أعدائنا فى بلادنا ممن يطلق عليهم "حكام العرب" ..فهم ملكيون أكثر الاستعمار نفسه، وينجح جميل فى استدعاء التراث فها هو يخاطب خالد بن الوليد "سيف الله المسلول"، الذى عجزت النساء أن تلدن مثل خالد الذى دوخ امبراطوريات الروم والفرس وزلزل أركانهم فى العراق والشام وفارس.. فيخاطبه بعدما راى التخاذل المزمن من ملوك طوائف العصر: آه يا ابن الوليد افتقدناك لا شبر فى جسد الأمة الآن.. صار سليما من الطعن (وأتانى أبيت اللعن) أن وجهك يلعننا!! وأن سيفك يصرخ فى غمده والليالى مرايا كسرن على حده إنه العقم ليس بإجلاسهن على الثلج يعقمن لكنه عقمنا نحن .. أطمع غربان أزمنة التيه فى ضعفنا.
وكان للصعيد بعض حديث من شاعرنا الحبيب، ففى قصيدة له بعنوان: (الجنوب ..هو البدء والانتهاء) وهى مهداة إلى "أسد سيناء" الشهيد سيد زكريا، ابن محافظة الأقصر، الذى عرفت أسطورته بعد استشهادة بعقدين من الزمان وفيها يقول: لك المجد. أرض الجنوب، وتاج الفخار ابتداء وفى الانتهاء لك الصولجان المطرز بالماس، حب العقيق، الزمرد، ياقوت أعين أسد أباة خضاب عصا جسمه عندم شقائق نعمانه من دم الشهداء لك الخلد، غابات عز وسيقان لا ترعوى صدور تجابه عنف الرياح وفرسان يشتعلون على حومة الموت يقتحمون التهاويل دون وجل. ونختم لقاءنا معه بجزء من قصيدة "نزيف النخيل": للنخيل بأرضى علاقته بالمدى .. والنخيل بأرض بلادى بفطرته مؤمنٌ.. والندى مطهر.. يتقاطر فى الفجر ..نهر حنان.. لكى يتوضأ منه النخيل، وسجادة العشب مسجده الأبدى .. فإذا صاح صوت المؤذن .. يتهجد قلب النخيل ويبكى كمن فتح القلب مستشرفاً ..قارئاً فى مرايا الأفق .. وطوايا الغيوب.. والبكاء نحيب والدموع ..عبق