مفهوم عند غالبية الناس أن الله خلق صورتين للوجود علي كوكب الأرض، وهما الكائنات الحية والتي تتميز بالنمو والتكاثر، والجماد الذي يخلو من الحياة. لكن وبعد أكتشاف الفيروسات أصبحت هناك صورة ثالثة تجمع بين الصورتين السابقتين أي الجماد والحياة، حيث أنها عندما تكون خارج العائل أو الخلايا الحية تكون عبارة عن جزيء كيميائي يسلك سلوك الجماد في الثبات وعدم التغيير، بينما عندما تكون بداخل الخلايا الحية فانها تكتسب القدرة علي تغيير وضعها وتستطيع أن تسيطر علي الخلية وتتضاعف فيها وكما يقولون يصبح الفيروس "سيد الموقف" مسخرا كل مقدرات الخلية لحسابه. قبل أكتشاف الكائنات الدقيقة، استخدم الرومان مصطلح "فيروس" لوصف مرض معدي، وأسم فيروس مأخوذ من المصطلح اللاتيني "فينم" ومعناها مادة سامة "سم أو توكسين"، وأول من أطلق أسم فيروس علي مسبب مرض التبرقش في نبات الدخان هو الهولندي "بيجيرينك" ومعه مواطنه "ماير" وساعدهم في ذلك الروسي "ايفانوفسكي" تقريبا في عام 1900م حيث وجدوا أن هذا المسبب المرضي صغير جدا في الحجم، واجباري التطفل كما أنه لا يمكن استزراعه علي أوساط غذائية صناعية. تصيب الفيروسات تقريبا جميع الكائنات الحية، فتصيب الأنسان مسببة أمراض تختلف نسبة الوفيات فيها حسب نوع الفيروس، منها علي سبيل المثال فيروس الأنفلونزا وفيروس ايبولا وفيروس الأيدز، وفيروس كورونا وفيروس شلل الأطفال وغيرها. كما تصيب الحيوانات من أشهر تلك الأمراض الفيروسية مرض النيوكاسل (الشوطة) الذي يصيب الدجاج ومرض الحمي القلاعية الذي يصيب الماشية. وتوجد أمراض فيروسية مشتركة بين الأنسان والحيوان مثل الأنفلونزا والسعار والايدز والشلل في الأطفال وغيرها. الفيروسات قادرة علي اصابة النباتات مسببة خسائر بها، خاصة المحاصيل ذات الاهمية الأقتصادية كالخضر مثل البطاطس والطماطم وأيضا الفاكهة ومحاصيل الحبوب والمحاصيل التي تدخل في بعض الصناعات مثل بنجر السكر وعباد الشمس والقطن وغيرها. أيضا الفيروسات قادرة علي اصابة وهلاك بعض الكائنات الدقيقة مثل البكتريا وبعض الطحالب والفطريات والبروتوزوا. ونظرا لأن الأصابات الفيروسية بعضها وبائية وخطيرة ومميتة، اتجه أنظار بعض العلماء لاستخدامها في "الحرب البيولوجية" منها ما يصيب ويستهدف الأنسان ومنها ما يستهدف الحيوان لأستنزاف طاقة وموارد البلد المستهدف. لكن للفيروسات جانب ايجابي حيث تستخدم في أنتاج اللقاحات والأنترفيرون وكذلك في الهندسة الوراثية حيث يستخدم بعضها كناقل لبعض الجينات الهامة الي كائنات أخري للأستفادة منها. أيضا بعض الفيروسات يمكن استخدامها كمبيد لبعض البكتريا الضارة ويقال أن وجود بعض تلك الفيروسات في أمعاء الأنسان يحدث توازن لحساب البكتريا النافعة علي الأخري الضارة في الامعاء. من الفوائد النادرة التي تعود من الفيروسات هي ما ينتج عن المرض الفيروسي "انكسار لون الزهرة في التيوليب" حيث ينتج عنها ألوان مختلفة للأزهار جميلة وغير تقليدية ومرغوبة من قبل المهتمين بذلك. يتراوح حجم الفيروسات من 10-1000 نانوميتر، والنانوميتر يساوي واحد علي ألف مليون من المتر، لا يمكن فحصه ورؤيته الا بالميكروسكوب الالكتروني حيث قوة تكبيره عشرات الألاف، وتأخذ أشكال مختلفة منها الكروي والعصوي الحلزوني ومنها المعقد الشكل. يتركب الفيروس أساسا من حمض نووي "لب"، ممكن يكون "دي ان ايه"، أو "أر أن ايه" وليس كليهما (كما في باقي الكائنات الحية)، يحيط بالحمض النووي من الخارج محفظة من البروتين لحماية الحمض النووي (الجزيء الأهم الذي يحمل المعلومات الوراثية) في الفيروس. بعض الفيروسات تحتوي بالاضافة الي ذلك غلاف يحيط بالمحفظة من الخارج مكون من أشواك من سكر ودهون وبروتينات، ويعد وجود ذلك الغلاف في بعض الفيروسات يزيد من قوة الفيروس الامراضية وكذلك خطورة المرض مثل فيروس الأيدز وفيروس كورونا وفيروس سارس والانفلونزا وفيروس الكبد سي وغيرها. توجد علاقة متخصصة بين الفيروس وخلايا العائل التي يصيبها، وذلك لوجود "أماكن استقبال" علي سطح الخلية تتوافق تماما مع أماكن خاصة علي الفيروس تسمي "أماكن ارتباط" (مثل القفل والمفتاح). بعني أنه لا يمكن لفيروس آخر أن يرتبط بتلك الاماكن المخصصة لهذا الفيروس كما لو أنها محجوزة لحسابه فقط. بعض الفيروسات له مدي محدود في الاصابة بحيث يصيب نوع واحد فقط من الخلايا، مثل فيروس الكبدي الوبائي بي حيث يصيب فقط خلايا الكبد في الانسان. البعض الآخر من الفيروسات يكون له مدي من العوائل متوسط مثل فيروس شلل الاطفال "بوليو" حيث يصيب خلايا الأمعاء والخلايا العصبية في الانسان وباقي الرئيسيات كالشمبانزي والغوريللا والأورانج اوتان. النوع الاخير من الفيروسات يكون له مدي واسع من العوائل مثل فيروس السعار "المسبب لداء الكلب" حيث يصيب مختلف الخلايا في الثدييات مثل الانسان والكلاب وغيرها. وتعد تلك الخاصية وهي خصوصية الاصابة للفيروسات نعمة من الله حيث لو فرض وكان كل فيروس قادر علي اصابة اي خلية لأنتشرت الاصابات الفيروسية في كل الكائنات وأهلكتها. الفيروسات غير قادرة بنفسها علي النفاذ داخل الخلية عبر غشائها وذلك لكبر حجم الفيروسات مقارنة بالفتحات الموجودة بغشاء الخلية، لذلك يحتاج لمساعدة كي يدخل الخلية. العجيب أن الخلية هي التي تقوم بدور المساعد في عملية الدخول، فهي أما تحيط بالفيروس وتبتلعه أو يمتزج غشائها بسطح الفيروس وتدفعه داخلها، وذلك يتم دون أن تعي أن هذا الفيروس سوف ينقلب عليها ويهلكها في النهاية. وعند دخول الفيروس الخلية يتحرر من الغلاف البروتيني الخارجي له ويتم ذلك أيضا بمساعدة الخلية، وبعدها يسيطر الفيروس علي مجريات الأمور بالخلية بما يحمله حمضه النووي سواء كان "دي ان ايه" او "أر ان ايه" من معلومات وراثية لبناء كل مكوناته اللازمة للوحدات الفيروسية الجديدة علي حساب مكونات الخلية ومستنزفا أغلب طاقة الخلية حيث ان الحمض الاميني-وحدة بناء البروتين-الواحد يحتاج الي أربعة جزيئات طاقة (ايه تي بي)، والفيروس يحتاج لأعدا هائلة من تلك الأحماض الامينية لبناء محفظته وغلافه الخارجي. بعض الفيروسات عند دخولها الخلية تعمل كحصان طروادة بحيث تتخفي كامنة في الخلية ولا يستطيع الجهاز المناعي التعرف عليها لمواجهتها والتخلص منها، تشبه اللص الذي يتخفي في زي رجل الشرطة داخل القسم، ولا يمكن الكشف عنها بالطرق التقليدية وانما باستخدام تقنية "بي سي أر" مثل فيروس الكبد سي وفيروس نقص المناعة المكتسب "الايدز". وحديثا ابتكر العلماء بعض المضادات الفيروسية التي تقوم باثارة الخلية لتخرج الفيروسات من مكامنها حتي اذا ظهرت واجهتها المضادات الفيروسية وتبيدها. الفيروسات التي حمضها النووي "أر ان ايه" تعتبر الاكثر خطورة والأصعب في المقاومة وانتاج لقاح ضدها، وذلك لسهولة حدوث طفرات فيها (تغيير بسيط في ترتيب القواعد النيتروجينية علي الجينوم) مما يؤدي لظهور سلالات جديدة لا يتعرف عليها الجهاز المناعي للجسم والذي كان بالفعل قد كون أجسام مناعية مضادة للسلالة الام. يحدث ذلك بشكل واضح في فيروس الانفلونزا، حيث يمكن اصابتنا به أكثر من مرة في الموسم الواحد، وأيضا ضرورة أخذ لقاح جديد له سنويا للتوافق مع السلالات الجديدة. الخطورة في ظهور سلالة جديدة وتكون وبائية، مثل التي ظهرت في العام 1918م وقتلت أكثر من 50 مليون نسمة في اقل من 18 شهر. أيضا فيروس الكبد سي يحتوي علي حمض نووي أر ان ايه، لكنه أكثر تعقيدا وملتف حول نفسه مما يجعله أقل ثباتا، كما أن تضاعفه في الخلية يتم بمعدل بطيء جدا وهذا ما يفسر مرور وقت طويل-سنين-منذ دخوله الجسم وحتي تظهر الاعراض، كما يفسر أيضا صعوبة الكشف عنه الا بالطرق الحديثة. هذا بالاضافة الي صعوبة استزراعه علي خلايا حية بالمعمل بهدف تركيزه وعمل لقاح له. اللقاح عبارة عن فيروس تم ترويضه ونزع أنيابه-فقدانه لقوته الأمراضية-أو قتله مع الاحتفاظ بشكل وتركيب بروتينه الخارجي، وهذا البروتين هو المسئول عن تحفيز الخلايا المناعية الموجودة بالجسم علي تكوين أجسام مضادة قادرة علي ردع ومواجهة والتخلص من نفس نوع الفيروس اذا غزا الجسم مرة ثانية. العلاجات الحديثة للفيروسات-مضادات الفيروس-تتمثل في صور عديدة كل صورة لها آلية في العمل للقضاء علي الفيروس. بعض هذه الصور يعمل أساسا علي تعطيل أول خطوة في مشوار حياة الفيروس وهي التصاقه بغشاء الخلية، حيث يعمل المضاد الفيروسي علي غلق أو تغيير في شكل مستقبلات الفيروس علي سطح الخلية، فيفشل الفيروس في الالتصاق أي لا تتم عملية الالتصاق وبالتالي يفشل الفيروس في دخول الخلية. البعض الأخر من صور المضادات الفيروسية يعمل علي تحطيم أو تعطيل بعض محفزات-انزيمات-عملية تضاعف الفيروس، وهذا ما يحدث في العلاج الجديد لفيروس الكبد سي "سوفالدي" حيث يقوم بوقف عمل انزيم "بوليميراز" الهام في تكوين الحمض النووي للوحدات الجديدة من الفيروس. والجديد في هذا الاتجاه هو نجاح العلماء في انتاج مضاد لفيروس سي يعمل علي تعطيل ووقف نشاط أكثر من انزيم (ثلاثة انزيمات بالنسبة لفيروس سي) لضمان نسبة نجاح أكبر في القضاء علي الفيروس. ظهرت منذ سنوات بعض المضادات الفيروسية الخاصة بفيروس "الايدز"، وهي تعمل علي تعطيل عمل انزيم مهم جدا في حياة الفيروس وهو انزيم "الناسخ العكسي" والذي يقوم بتحويل الحمض النووي الفيروسي "أر ان ايه" الي "دي ان ايه" وهي عكس ما يحدث في طبيعة الأحياء في أن الثاني (مزدوج الخيط) يمكن أن يكون الأول (أحادي الخيط) لذلك سميت تلك الفيروسات "مجموعة الفيروسات المتراجعة" أي تتراجع عن المألوف والتطوري. عندما يتحول حمض فيروس الايدز "أر ان ايه" الي "دي ان ايه" يتكامل ويتحد مع جينوم الخلية في العائل ويكمن فترة-قد تطول الي 10 سنوات-الي أن يتمكن من الاجهاز علي مقدرات الأمور في الخلية ويقضي عليها وبالتتابع علي المصاب في النهاية. الصورة الثالثة للمضادات الفيروسية تعتمد علي ذكاء الانسان في خداع الفيروس، حيث يمد الخلية بجزيئات تشبه ما يحتاجه الفيروس عند بناء وحداته الجديدة-التضاعف-وتسمي تلك الجزيئات "شبيهة القواعد النيتروجينية"، وتشبه تماما القواعد النيتروجينية التي ياخذها من الخلية، فيأخذ الفيروس الجزيئات الشبيهة عن طريق الخطأ وتنطلي عليه الخدعة مؤدية في النهاية الي فيروس غير فعال "فنكوش". لا تتأثر الفيروسات بكافة المضادات الحيوية، حيث أن آلية عمل المضادات الحيوية في الأساس تستهدف مكونات في الكائن الحي-مثل البكتريا-غير موجودة بالفيروس مثل الجدار الخلوي والريبوسومات وغيرها. لذلك وعند اصابتنا بالانفلونزا فان تناول المضاد الحيوي لا يقصد به التخلص من الفيروس وأنما للقضاء علي العدوي الثانوية-بكتريا-التي تظهر نتيجة ضعف في مناعة الجسم. معظم الفيروسات تعتبر حساسة وضعيفة جدا عندما تكون خارج خلايا العائل، فنجدها تتأثر بالمواد المطهرة مثل الكلوروفورم والفورمالدهيد والفينول ومساحيق التنظيف وغيرها لذلك تستخدم بعض تلك المواد في تطهير الحوائط والأرضيات وبعض الأدوات في المستشفيات. أيضا تتأثر الفيروسات بالحرارة حيث كلما زادت درجة الحرارة فان غالبية الفيروسات تتحلل وتموت، كذلك تتأثر باشعة الشمس والفوق بنفسجية وكذلك الجفاف وعوامل فيزيائية أخري طالما كانت خارج الجسم. بعض الفيروسات عندما تصيب الكائن الحي تبقي كامنة في الكائن دون ظهور أعراض-اصابة كامنة-أو حتي لا تؤثر سلبيا في الكائن ويكون الكائن كمستودع للفيروس، لكن تلك الكائنات المصابة بالفيروس تظل قادرة علي نقله لكائنات أخري، وهنا مكمن الخطر حيث يتعامل الناس مع تلك الكائنات-بما فيهم بعض البشر المصابين-بدون حذر، مثل القرد الأخضر عند اصابته بفيروس الأيدز لا تبدو عليه أعراض لكن يظل قادرعلي أن ينقل الفيروس للناس. التضحية بالنفس من أجل الأخرين تعتبر من أسمي صفات الأنسان، الا أن العلماء رصدوا تلك الظاهرة في بعض الخلايا المصابة بالفيروس، حيث تقوم الخلية التي بها جزيئات الفيروس بقتل نفسها-بصورة مبرمجة-بما فيها من فيروسات كي تحمي الخلايا المجاورة حيث تمنع انتشار تلك الفيروسات لجيرانها من الخلايا وبذلك يتخلص الكائن من الفيروس بعد خسارة بسيطة لبعض الخلايا. فسبحان الله الذي خلق فأبدع وسوي. استاذ بكلية العلوم-جامعة الفيوم