كتب الصديق العزيز عماد الدين حسين مقالة في الشروق أمس يرصد فيها تطورات العنف والأعمال الإرهابية في مصر لكي يخلص إلى نتيجة ، مفادها أن هذا كله مصيره للفشل والهزيمة وأن عليهم أن يتعظوا مما حدث للجماعة الإسلامية في التسعينات ، في إشارة إلى حملة العنف الدموي التي خاضتها الجماعة ضد الشرطة والسياحة وانتهت بمراجعات السجون ، حيث انتهى صديقي عماد إلى ما نصه : (ما الذى يجعل إرهابيى سيناء يعتقدون انهم سينجحون فيما فشل فيه إرهابيو أسيوط والمنيا وبقية انحاء الجمهورية، ما هى الأوهام التى تعشعش فى عقول البعض لتجعله يتوهم ان قطع الرءوس سيجعل المصريين يؤمنون بأفكار داعش أو «انصار بيت المقدس»؟ ، ما الذى يجعل جماعة الإخوان تتخيل ان «بيانات ونداءات الكنانة» والقنابل والعبوات الناسفة التى صارت جزءا روتينيا من حياة المصريين الآن ستجعلهم يحبون الجماعة؟!) . وجهة نظر الصديق العزيز لها وجاهتها قطعا ، كما لها مبررها المعنوي والوطني والذي نتفق جميعا عليه ، وهو أن الإرهاب لن ينتصر على الدولة أو لا يجب أن نسمح له بالانتصار على الدولة ، ولكن الخلاف يأتي من تشخيصنا للدولة التي تحارب الإرهاب ومؤهلاتها الدستورية والأخلاقية والإنسانية مع مواطنيها بالأساس ، كما يكون الخلاف الآخر من الاعتراف بالفارق الكبير في السياق التاريخي والاجتماعي والسياسي بين الوقائع المتشابهة ، لأن تجاهل هذا الفارق يجعلنا نقيس وقائع ليست متطابقة ، وهذا ما يورطنا في تصورات وربما استراتيجيات مبنية على الوهم أو العواطف ، وللأمانة فرؤية عماد حسين هنا متكررة من آخرين يستسهلون المقارنة بين الظرف الحالي وبين أحداث التسعينات ، وربما جرت المقارنة مع الحالة الجزائرية أيضا . ويكون من الضروري والأمانة الوطنية أن ننبه إلى أن أوجه الخلاف كبيرة بين وضع التسعينات والوضع الحالي ، لأن التسعينات كنا أمام تنظيم صغير نسبيا وبدون حاضنة شعبية وبدون قضية بالأساس ، باستثناء ثأر دموي مع الشرطة ، لأن المواجهات اندلعت على خلفية تصفية الشرطة للمتحدث الرسمي للجماعة فردت الجماعة باغتيال رئيس مجلس الشعب وستة من حرسه ثم تتابعت العمليات المتبادلة ، وكان من نتيجتها مئات الضحايا من الشرطة والمواطنين والسياح ونزيف خطير استمر عدة سنوات ، ووصلت الأمور في بعض الأوقات بسبب ضغط الجماعة وضرباتها إلى تفكير الداخلية في عقد صفقة لوقف العنف ، وبسببها أطيح بمحمد عبد الحليم موسى وزير الداخلية وقتها بعد أن تسرب الحديث عنها ، أيضا في ذلك الوقت كان هناك تحالف دولي صارم ضد هذه المجموعات الصغيرة ومعادي لها على خلفية علاقاتها بتنظيم القاعدة ورموزه ، فكانت أجهزة المخابرات الكبرى تتعاون مع الجهات المصرية تعاونا كاملا في مطاردة قيادات الجماعة الإسلامية في الخارج وتلقي القبض عليهم أو اختطافهم وتسليمهم سرا إلى مصر ، كما حدث مع أحمد عجيزة الذي اختطفته المخابرات الأمريكية في السويد وشحنته لمصر ووقعت ضجة كبيرة بالبرلمان السويدي بعد أن تسربت معلومات الواقعة ، وكذلك حدث مع آخرين تم شحنهم من سوريا وبلاد القوقاز . اليوم نحن أمام تحدي مختلف ، لأن هناك انقساما شعبيا حقيقيا لا يصح تجاهله ، وهناك ملايين المصريين ينحازون لنظام السيسي وملايين حقيقية أخرى ينحازون إلى قضية الرئيس الأسبق محمد مرسي والقوى الداعمة له ، وهذا المحيط المليوني يتيح حاضنة شعبية خطيرة للغاية لأي أعمال خارج إطار القانون ، وعمليات الملاحقة والمطاردة المستمرة والواسعة في الوزارات والجامعات والمصالح الحكومية المختلفة لعزل وإقالة أمثال هؤلاء تكشف إلى أي مدى وصل الانقسام والتغلغل ، أيضا نحن أمام قضية مختلفة اليوم لم تكن موجودة في التسعينيات ، وهي قضية الانقسام والنزاع حول "الشرعية" ، بغض النظر عن سلامة هذا الموقف أو ذاك ، إلا أنها قضية حقيقية تثير الانقسام والقلق داخل مصر وخارجها باعتبار أن مرسي لم يتنازل عن رئاسته التي حصل عليها بانتخابات حقيقية واختيار شعبي ، وبالتالي ظل الجدل محليا ودوليا ملتهبا حول عزله ، هل كان بثورة شعبية أو بانقلاب ، ولم يكن لهذا الوضع مثيل أيام التسعينات ، أيضا لم تكن الجماعة الإسلامية تحظى بأي سند دولي أو إقليمي في نشاطها ، بل كان مجرما من جميع الدول ، باستثناء القذافي في أشهر قليلة احتضن فيها بعض قيادات الجماعة والشيخ عمر عبد الرحمن ، قبل أن يقطع صلته بهم سريعا ، أما اليوم فلا يخفى أن التيار المناهض للنظام من أنصار مرسي يحظى بدعم إقليمي ودولي كبير وبعضه علني من دول ونظم حكم ، وهناك عواصم مهمة في المنطقة تدعمه سياسيا وماليا وإعلاميا وديبلوماسيا أيضا ، كما أن هذا التيار يمتلك منظومة إعلامية من صحف وفضائيات ومواقع الكترونية مؤثرة بالفعل وواسعة الانتشار ولم تكن موجودة في معادلة التسعينات كما أنها خارج السيطرة لأنها كلها تقريبا من الخارج ، كما أن المجتمع الدولي ذاته لا يتفق على توصيف الإخوان ونشاطهم بأنه إرهابي ، وهناك تيار سياسي وإعلامي واسع في الغرب يعتبر أن ما حدث في مصر انقلاب أطاح برئيس منتخب ، وكل هذا لم يكن موجودا في التسعينات . ولا يمكن في هذا السياق أن نتجاهل مؤثرات الحالة الاقتصادية للدولة على المواجهات وطول النفس فيها ، ففي التسعينات كان الاقتصاد المصري متوازنا ومتماسكا إلى حد كبير ، ويمكن للدولة أن تتحمل بسهولة أعباء المواجهة ونفقاتها وتقلصات الاقتصاد العارضة بسبب العنف والإرهاب ، بينما الآن نعاني كثيرا بعد أحداث السنوات الأربع التي أعقبت ثورة يناير ، من تراجع الاحتياطي النقدي بصورة خطيرة ، وكذلك تراجع معدلات النمو ، وقلق رأس المال المحلي والأجنبي ، وهي عوامل ضاغطة على صاحب القرار وحساباته . أيضا لا يمكن تجاهل الشقوق والتصدعات في البيئة الأمنية المحيطة بمصر ، سواء في سيناء أو ليبيا أو حتى السودان ، وهي بيئة مساعدة على تسرب السلاح والذخيرة والمقاتلين بصورة أسهل كثيرا مما كان في التسعينات ، إضافة إلى الفوضى السياسية في العراق والشام والتي أثرت على المنطقة كلها ، وهي فوضى قدرت الأجهزة الأمريكية مدى السيطرة عليها بما بين خمسة عشر عاما إلى عشرين عاما ، وقدرها هيكل في حواره مع السفير والذي أعادت نشره الشروق نفسها بما بين اثني عشر عاما إلى خمسة عشر عاما ، وهذا يعني أن علينا أن نضع هذه العشرية السوداء كحد أدنى في حساباتنا ونحن نقيس ، وقد رصدت الأجهزة المصرية المختصة أن نوعية السلاح الذي تستخدمه الجماعات الإرهابية في سيناء تحديدا نوعيات حديثة جدا وبصورة مربكة . أيضا ، لا يمكن تجاهل أن هناك تطورا ملحوظا في القدرات القتالية لتنظيمات العنف ، وما حققته داعش في العراقوسوريا ماثل للأذهان ، كما أن من يسمون أنفسهم بولاية سيناء خاضوا معارك مع قواتنا المسلحة استمر بعضها عدة ساعات قبل أن يتم حسمها بالطيران ، كما أن هناك تطورا في وحشية وبشاعة وجرأة العمليات التدميرية التي يقومون بها ، ولم نكن نسمع من قبل عن المفخخات الانتحارية أو الأحزمة الناسفة ، وهذه مرحلة من الجنون لا سابق لها في تجارب الإسلاميين . نحن إذا أمام تحد خطير بالفعل ، ومختلف عما سبق ، ويحتاج إلى جهد مختلف وأفكار مختلفة للتصدي له ، والمؤكد أن الإرهاب مهما تنامى لا يمكنه أن يهزم الدولة أو يفرض قراره ، ولا يوجد أي وطني ، في سلطة أو معارض ، يسمح بذلك ، ولكن التصدي لهذه المخاطر تستدعي منا تقديرها بشكل صحيح أولا ، ثم مواجهتها بشكل علمي وعقلاني وقانوني أيضا ، وأن يتم الفرز بشكل صحيح وجاد بين من يستخدم أدوات سياسية في الاحتجاج أو المعارضة مهما كانت حدة معارضته وبين من يستخدم العنف والإرهاب المسلح ، ثم يكون الأهم في هذه المواجهة الممتدة أن لا تخسر الدولة بطيش أو استعجال أو فراغ صبر حاضنتها الشعبية بتوسيع نطاق القمع والحصار للقوى السياسية وتعميق الانقسام الوطني ، بل تعمل على تجفيف وتقليص الحاضنة الشعبية للإرهاب معنويا بالأساس ، وهذا سر انتصارها المؤكد ، وهو لا يتحقق إلا بالالتزام الصارم بروح العدالة ومنطقها ، واحترام الدستور والعمل به ، وإعلاء كرامة المواطن وحريته وحقوقه الأساسية ، بهذا وحده ينتصر الوطن على الإرهاب ، ويحفظ سلامه الاجتماعي ويمتلك الأمل في صياغة مستقبل أفضل .