دار نقاش بينى وبين بعض الأصدقاء من المثقفين والمهتمين بالشأن الاسلامى ، وأخذ الجدل حول حزب النور السلفى حيزاً من هذا الحوار الثرى . هناك من يرى أن الحزب السلفى عبء على المرحلة وأنه ينبغى عدم الوقوع فى نفس أخطاء الفترة السابقة ، وهناك من يرى انهاء وجود أى ممثل لفصيل اسلامى فى المشهد السياسى والبرلمانى والحزبى ، ولا تخفى عن أحد ملامح الحملة الاعلامية التى يتعرض لها حزب النور . لذلك لابد من تعميق النقاش بشأن هذه القضية بشكل موضوعى وواقعى ، مع العلم بأننا لا ننتمى لأى تنظيم أو حزب ، وأننا مجرد مراقبون مستقلون نحلل المشهد وننقل رؤانا بأمانة . الجميع تقريباً اليوم يهاجم حزب النور من اليمين الى اليسار الى الوسط ولكل أهدافه وغاياته . وبعيداً عن اسقاط بعينه أو حصر القضية فى حزب أو تيار ، فما يعنينى فى هذا القضية عدة ملفات مهمة : الأول : داخل الطيف الاسلامى هناك الفخر والانحياز للتمرد على الدولة واكتساب نجومية الندية مع السلطة والنظام ، لكن قليل من ينتبه الى مسار التمرد على الاخوان وصولاً لحل تعقيدات وأزمات الحركة الاسلامية التاريخية المتكررة ! والاخوان طوال تاريخ علاقتها بفصائل التيار الاسلامى منذ نشأة الحركة الاسلامية الى اليوم استطاعت احتواء معظم هذه الفصائل – عدا جماعة التبليغ والدعوة لطبيعتها الخاصة – اما بالاستفادة المباشرة أو بالتوظيف غير المباشر واستخدامها كفزاعة للأنظمة والحكومات ، وجميع هذه الجماعات والفصائل وقعت تحت هذا التأثير الاخوانى بصور مختلفة بشكل أثر كثيراً على مصلحة الحركة الاسلامية بصفة عامة ، لحساب فقط تحقيق مصالح الاخوان ومطامحه المعروفة . وربما يفسر هذا سر السخط الاخوانى العارم على حزب النور ، فهذه ربما المرة الأولى التى يتحقق فعلياً على الأرض شئ من التنوع الحقيقى للاسلام السياسى خارج المصلحة الاخوانية المحدودة وخارج عباءة توظيف الاخوان وتأثيراتها . بمعنى أنه أصبح متاحاً اليوم – وهذا لم يحدث من قبل – الاعتماد والتعامل وملأ الفراغ " اليمينى " بقوى وتيارات اسلامية لها خطاب سياسى محدد خارج السيطرة الاخوانية بكل أساليبها الحدية ابتداءاً من التأثير والتأثر المتبادل بالثورة الايرانية وأدبيات التشيع السنى ، مروراً بالخيارات الأحادية والرغبة الدائمة فى التفرد بالسلطة ، انتهاءاً بتوظيف العنف وجماعاته أو حتى التورط فيه فعلياً . الثانى : وهذا لا يقل أهمية عن الأول ، هو انهاء لعبة القط والفأر بين اليمين واليسار – وفى الوسط منهما الجيش والدولة – على الساحة السياسية المصرية الممتدة منذ منتصف القرن الماضى الى اليوم . لنتذكر هنا جيداً أن الذى قتل الرئيس السادات رحمه الله هو فراغ الساحة الاسلامية – الجناح اليمينى – من فصائل وأحزاب وكيانات معتدلة بالفعل حيث لم يكن بالساحة سوى الاخوان ثم الجماعات المتأثرة بالنهج القطبى التى تشكلت ونشطت فى الجامعات ، فلم يجد الرئيس السادات حلاً سوى باللجوء اليها لترجيح كفته فى صراعه مع اليسار – المتشدد – فأعاد للاخوان قوتهم وأنشطتهم الاقتصادية ونفوذهم الاجتماعى الذى سبق وجففه الرئيس عبد الناصر . وكان ثمن انقاذ النظام السياسى الجديد هو الاعتماد من جديد كلياً على الاخوان والمتأثرين بها من الطيف الاسلامى وممن سهل احتواؤهم أو توظيفهم اخوانياً كالجهاد والتكفير والهجرة والفنية العسكرية والجماعة الاسلامية ، أى أن النظام السياسى يفتح المجال ويهيئ المناخ لنمو تيارات وفصائل لم تراجع تاريخها العنيف ولم تضع مناهج مختلفة فى التعامل مع الدولة ومع الآخر ولم تتغير أهدافها المحلية والأممية ، ولا تجد السلطة الحاكمة بديلاً عن ذلك ، فهى ان لم تتعاون مع هذا الجناح بكل سلبياته ستخسر معركتها فى المواجهة مع الجناح اليسارى المتشدد ، والنتيجة بالطبع معروفة ومكررة ، ولم تقتصر فقط على اغتيال أهم شخصية مصرية على مدار قرن بأكمله فى يوم ذكرى احتفاله بانتصاره التاريخى . انما كذلك عندما أعاد الملك فاروق الاخوان ومنحهم النفوذ والحضور من جديد لمواجهة الوفد عدوه اللدود وكانت النتيجة مشابهة ، وان لم يُقتل فاروق الذى أعرب عن احتياجه الشديد للاخوان ليس فقط لدعمه سياسياً فى مواجهة الوفد الذى حاز الأغلبية البرلمانية فى آخر انتخابات فى العهد الملكى ، انما أيضاً لمواجهة الانجليز والشيوعيين . فلما تم للاخوان المراد وعادوا بقوة للمشهد بعد فترة ضعف وانهيار عام عقب اغتيال المؤسس حسن البنا تخلوا عن الملك الذى أعادهم للمشهد وتركوه يسقط بسهولة أمام حركة ضباط محدودة كان من الممكن صدها والتغلب عليها لو كانت للملك قوة مخلصة غير طامعة تسانده . وتكررت اللعبة طوال عهد مبارك حيث بقيت الخيارات محدودة بين الاخوان ومن توظفهم بشكل غيرمباشر من جماعات ، ولم يكن الطيف السلفى ساعتها قد طور من نفسه ليتبنى خطاباً سياسياً واضحاً ويصبح له حضوراً فاعلاً فى المشهد . الثالث : هنا نكتشف المتغير المهم والحيوى ؛ فعلى الصعيد الليبرالى والقومى والناصرى صعدت مؤخراً تيارات ورموز أقل حدة وتشدداً من تيارات الخمسينات والستينات ، وربما ترك بعض رموزهم الساحة اليوم هرباً للخارج – وهذا مدهش بالفعل - ، وكان بعضهم من مكونات حركة 3 يوليو 2013م ، وقد مثلوا بديلاً جيداً يخفف من نفوذ وتأثير جناح اليسار المتشدد وخصوم التيار الاسلامى من ليبراليين ويساريين أكثر تشدداً . والعجيب فى الأمر أن هؤلاء بعد الهروب وقعوا تحت تأثير الاخوان فى الخارج ، واستطاعت الجماعة احتواءهم ! لنصبح اليوم أمام نفس المعادلة مع بقاء – وربما صمود – متغير واحد جديد ، وهو امكانية الاعتماد على بديل اسلامى مستقل وخارج عباءة التأثر والتوظيف الاخوانى ، وان قيل ما قيل عن علاقته بالدولة ومؤسساتها الأمنية – فهل كان الاخوان طوال عقود الحضور فى المشهد المصرى على علاقة بجمهوريات الموز مثلاً ؟! – فأى تيار مصرى يشرع فى العمل السياسى لابد وأن يكون على علاقة بالدولة ومؤسساتها وتياراتها . الواقع المصرى برمته فى حاجة لتطوير واثراء وتنوع ؛ فليس من المنطقى أن يظل مستقبل الأمة المصرية مرهوناً على الدوام وفى كل المراحل بارادة جناحى اليمين واليسار المتشددين من ذوى الخيارات الحدية والتعامل المتمرد ذى الطابع الصدامى مع السلطة . وهناك حاجة مصيرية ملحة لانهاء الصراع الساخن الصفرى بين الناصريين والاسلاميين من جهة ، ومن جهة أخرى فالواقع المصرى فى حاجة لحضور تيارات وأحزاب معبرة عن الطيف الفكرى المصرى من اليمين والوسط واليسار ذات رؤى اصلاحية توافقية سلمية تعمل فى السياق الوطنى ببرامج تسهم فى النهضة والتنمية ، بعد أن تأخرت مصر كثيراً على مدى أكثر من قرن بسبب الصراعات والخيارات الأحادية ورغبة هذا وذاك فى احراز نصر ساحق على خصمه . الدولة المصرية فى حاجة لتصعيد كيانات وأحزاب بمرجعيات متنوعة سواء اسلامية أو ليبرالية أو يسارية أو قومية ، بنهج توافقى متوازن وبفكر استراتيجى سلمى ، بعيداً عن مساحة ارث الصراع القديم والتوظيف والتوظيف المتبادل ولعبة القط والفأر بين السلطة وجناحى اليمين واليسار ، وبعيداً عن مساحة الحلول الأحادية التى تنتهى عادة بخيانات كارثية . هذا كله لن يحدث ما دامت الساحة فى حالة احتكار شبه دائم فقط لجناحى اليمين واليسار المتشددين ، بدون تنوع واثراء يملأ الساحة بخيارات مقبولة ومأمونة مستقبلية أمام اللاعبين فى المشهد السياسى .
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.