أعرف الأستاذ راشد الغنوشى مما يزيد على عشرين عاما عرفنى به الأستاذ الكبير صالح أبورقيق.. ليس بشكل شخصى ولكن من خلال كتاباته .. ففى رحلة له إلي المغرب أحضر معه كتاب من ثلاثة أجزاء بعنوان (حركة الاتجاه الإسلامي فى تونس ) وأهداه لى ..وطفق الأستاذ صالح يحدثنى عن كاتبه وقدراته والأمل الكبير فى أن يكون منظرا للحركة الإسلامية ليس فى المغرب العربى فقط ولكن فى العالم كله ..وقد كان ..صالح أبو رقيق التلميذ النجيب لحسن البنا وعبد الرحمن عزام كم كان يقول لى دائما له أنف تتشمم المواهب الواعدة من أقصى المدينة .. الأستاذ صالح كان له دور كبير مع الأستاذ عبد الكريم الخطيب فى ضبط البوصلة المغاريبية (كما قال لى د .سعد العثمانى )فكان الفكر المغاربى المتميز بالسماحة والاعتدال والتبصر والتقدم صدقت رؤية الأستاذ صالح رحمة الله وكان أن أظلمت الدنيا فى تونس فرحل الراشد الغنوشى إلي لندن لاجئا ..وكما يقول بن عطاء الله السكندرى فى (التنوير فى إذهاب التدبير) لربما أتت الفوائد من وجوه الشدائد ..ولربما أتت الأضرار من وجوه المسار ..ولربما كانت المنن فى المحن... وقد كانت كلها فى رحلة التغريب والنفى..على أنه بفضل الله كانت ثمراتها كلها منن وفوائد .. فكان بيته فى لندن مزارا لكل أبناء الحركة الإسلامية فكان التطور النوعى الواسع المدى الذى رأيناه فى كثير من أبناء الحركة الإسلامية الذين تربوا فى الغرب . الفكر الذى يمثله راشد الغنوشى والذى حدثنى عنه ا/صالح هو فكر(المدرسة الأم) التى بلورت فكر الرواد الأوائل الأفغانى وعبده ورضا.. ليس هذا فحسب بل كان فكرا متجاوزا لأخطاء الماضى ..لم تستفد الحركة الإسلامية فى مصر كثيرا من ا/ صالح أبو رقيق وا/صلاح شادى وا/فريد عبد الخالق وكل هؤلاء العظام الذين رافقوا الدعوة فى نبتتها الأولى .وسيقف التاريخ أيضا طويلا وهو يرتب أوراقه عن سبب إبعاد هؤلاء العظام من قيادة الحركة الإسلامية فى السبعينيات والثمانينات. نجاح حزب النهضة لم يكن مفاجئا لى ولا لكل المتابعين للحالة الإسلامية فى تونس فرغم التضييق والعلمنة التى مارسها بورقيبة وخلفه ..إلا أن الإسلام بقى فى الشخصية التونسية كما هو قويا يافعا .. كان الناس يصلون فى المساجد بالكارنيهات والذى يصلى فى مسجد غير مسجده تبلغ به أجهزة الأمن ..ناهيك عن الحرب ضد الحجاب واللحية وكل أشكال الهدى الظاهر فى الالتزام بدين محمد صلى الله عليه وسلم .. بعد كل هذه السنين وكل هذا الصد عن الدين وتعاليمه تنجح الحركة الإسلامية نجاحا مدويا ..فى أول انتخابات حرة بحق وحقيق .. راشد الغنوشى الرجل والفكرة.. كان له دور كبير فى هذا النجاح المشرف فبقدر الثقة والطمأنينة التى تشع من الرجل فكرا وممارسة وخطابا نستطيع أن نتوقع مستقبلا واعدا لتونس الخضراء فى السنوات القادمة . نقد الراشد للحركة الإسلامية فى العالم العربى كان مبكرا جدا وحادا جدا وصادقا جدا وعميقا جدا.. كان الراشد اول من أعلن أن هناك ضعف فى الفكر وعقم فى التخطيط !! وغياب فى النظرة الاستراتيجية للأمور تلك النظرة التى تجمع العقول والخبرات وتفتح أفق الحوار الممتد زمانا ومكانا .. وتساءل الراشد (المرشد) ذات مرة فى براءة وهدوء: (أولئك المطمئنين أن الأمور تسير سيرا حسنا ..هل جلسوا مرة واحدة ليقيموا ما حصل رغم ضخامة وفظاعة ما حصل )؟ (هل تتقدم عجلة العمل الإسلامي للأمام أم أنها تدور فى مكانها ) ؟ (هل استطعنا أن نفهم الناس أن الإسلام جاء ليعمر وييسر للبشر استكمال خصائص إنسانيتهم )؟ (هل نتفق على أن انعدام الرؤية التقيمية والركون إلي التقليد فى المضمون ووسائل التنفيذ خطر كبير يهدد الجميع) ؟ (هل استطعنا الربط بين الدعوة وبين مطالب الناس وطموحاتهم فى استقلال الإرادة الوطنية والعيش فى حرية وكرامة) ؟ (هل تيقنا فعلا بضرورة العمل وسط الجماهير لإبلاغ الفكرة وبلورة المشروع مع احترام الأطراف الأخرى فى ساحة العمل ام لا زلنا ندعى الكهانة والوصاية على الآخرين) ؟ (هل استطعنا أن نصيغ رؤية إسلامية معاصرة تستوعب مكاسب البشرية ونضع لها مكانها فى الوعى الإنسانى)؟. (هل استطعنا أن نحطم هذا الفصام بين الأمة والرسالة ..الواقع والطموح ..الحماس والبناء)؟ (هل استطعنا أن نربط بين الرغيف والفكرة فى وعى الناس العاديين)؟ (هل استطعنا أن نضع حدا تاريخيا للتضاد بين النص والواقع.. النقل والعقل ..التراث والمعاصرة )؟ (هل مازلنا نرى ماضينا كله صوابا أم أن به أخطاء لابد من تجاوزها ودراستها لنتخطاها إلي الأفضل ) ؟ (هل استطعنا أن نقنع المرأة أن الحجاب هوية وانتماء قبل أن يكون شكلا وغطاء..وأن الإسلام قدم شهادة ميلاد للمرأة الإنسان لا المرأة الشهوة والمتاع) ؟ (هل استطعنا أن نأخذ بقلوب الناس لتتجه إلي الله وتتوق للقائه وتفزع من عذابه...هل استطعنا أن نقنعهم أن العمل للآخرة يجعل أهداف الدنيا تجد حلها التلقائى فى الطريق) ؟ (هل تأكدنا بضرورة غرس هم التجديد والإبداع فينا وارتياد أفاق جديدة فى رحاب الله والتاريخ و المستقبل فتنفجر فينا كل قابليات الخير والحق والحب والجهاد)؟ (هل تيقنا بضرورة فسح الطريق لنماذج التجديد لتضيف إلي التصورات التقليدية التى توقفت من أواخر الأربعينيات ويدفعون الناس إلي ألوان جديدة من المجاهدة الفكرية والثقافية وإلي مساحات جديدة من العمل السياسى والاجتماعي أوسع وأرحب ) ؟ (هل تيقنا أننا تغيب عنا فلسفة للتربية مما يجعل العمل التربوى اقرب إلي التنميط والتكديس منه إلي البناء والتفرد)؟. الراشد المرشد طرح هذه الأسئلة من ثلاثة عقود !!ولربما أكثر.. ولم يستمع إليه أكثرهم ..كانت قضية الحشد والتعبئة التنظيمية هى أم القضايا ..كانت كلمات مثل ثقافة وتجديد وإبداع وتقييم..كفيلة لسن (سكين) الإقصاء والإبعاد والاتهام..والتى كادت أن تطول الراشد المرشد لولا عناية الله وحفظه. لا علينا فهذه أيام مضت وانقضت ولم يبق إلا أن يمضى (أصحاب السكاكين)..ولعل موعدهم الصبح ..أليس الصبح بقريب؟ أخر ما قرأت للراشد المرشد كان كتاب (القدر عند بن تيمية) ..وخلص فيه الراشد إلي أن الرجل هو أبو الصحوة الإسلامية المعاصرة وقدم فيه إجابات بن تيميه على مسائل القضاء والقدر والجبر والاختيار ..وهى من روائع العقل الإنسانى ..قدمها لنا راشد الغنوشى فى دراسة شديدة الرقى والبساطة ولم أملك من فرط تأثرى بالكتاب إلا أن ألخصه فى نقاط تسهيلا وتيسيرا على كل قارئ شهى تقلقه التساؤلات..ونشرته فى مجلة (المجتمع ). فغير أن الموضوع نفسه مهم ويحتاج شروح وافية ضافية قدمها الكتاب ..كان يعنينى أن تعرف الأغلبية الغالبة من أبناء الحركة الإسلامية خاصة الشباب الأطهار الأنقياء...من هو بن تيمية ومن هو راشد الغنوشى .! وأسوق للراشد المرشد قصة الأعرابى الذى ضل الطريق ليلا فلما طلع القمر.. اهتدى ..فرفع رأسه إليه متشكرا فقال :ماأدرى ما اقول لك وما اقول فيك ..أقول فليرفعك الله ... تهنئة من أعماق القلب للشعب التونسى قاطرة الإصلاح العربى فى القرن الحادى والعشرين .. وتهنئة لحركة النهضة ورجالها المخلصين الصابرين . وعقبى لباقى الحركة الإسلامية بقادة (حركيين مفكرين) مثل الراشد المرشد الغنوشى ..وبانتخابات عفية قوية مثل انتخابات تونس .