طوى الليبيون والعالم بأسره حقبة معمر القذافي التي دامت زهاء 42 عاماً عقب إعلان مقتله يوم الخميس 20 أكتوبر/ تشرين الأول 2011 . اليوم، تدخل ليبيا مرحلة حاسمة من تاريخها، وتسير بخطى ثابتة نحو إقامة الدولة المدنية بعد الإعلان عن انتخاب مجلس تأسيسي في غضون 8 أشهر وتنظيم انتخابات تشريعية ورئاسية في غضون 20 شهراً، ولعل أهم الخطوات العملية أن يتجاوز الشعب الليبي الماضي ومآسيه بغية رسم منهاج سياسي يكون دائماً منضبطاً بإيقاع الحركة بين المجتمع والدولة والتاريخ، إذ يتعايش والحاضر، فإنما يقوم بذلك بغية دفعه إلى المستقبل الذي يتصوره، وهذا ما يجعله قادراً على الارتفاع فوق الانتهازية والانعزالية وقادراً على الإعداد لمجابهة كل مشكلة قد تعترض طريق أمته، فضلاً عن أنه عامل أساسي في الضبط الاجتماعي من أجل الحفاظ على تماسك المجتمع بعد الحفاظ على وحدته في المنعطفات السياسية والعسكرية والأمنية، وذلك عبر التطور والتطوير لا عبر الثورة والتثوير من خلال الالتزام الكامل بالعامل الاقتصادي واعتبار الاقتصاد القوي هو المرتكز الرئيس والرابط الموصل إلى عالم الديمقراطية والتفكير بثلاثية الأمن وحقوق الإنسان والتنمية، ولا يمكن أن يتحقق أحدها بمعزل عن الآخر ، وهي السبيل إلى العدالة الاجتماعية من أجل بناء دولة تتجلى فيها الوحدة بين الذات والموضوع في دولة عقلانية يزول فيها البؤس والشقاء، وتتصالح الذات مع العالم، والترابط بين العقل والتاريخ المتماثل مع قوانين العدل والحقيقة المنطلقة من الفكر الحر الذي يهدف إلى تخليص الشعب الليبي من ماضي نظامه المرعب والفوضوي ومرارة الفقر والعوز في بلد حباه الله بموقع جغرافي استراتيجي فريد، حيث تمتلك ليبيا أطول ساحل على البحر المتوسط، ومساحات من الأراضي الشاسعة، و موارد طبيعية وافرة من النفط والغاز الطبيعي، إذ يشكل النفط نحو 94% من عائداتها من النقد الأجنبي و60% من عائداتها الحكومية و30% من الناتج المحلي الإجمالي . ويبلغ معدل إنتاجها من النفط 2 مليون برميل في اليوم من احتياطي يصل إلى 5 .41 مليار برميل، ويبلغ معدل إنتاجها من الغاز 399 مليار قدم مكعب من احتياطي يصل إلى 7 .52 تريليون قدم مكعبة . الشعب الليبي إذا احتاج إلى شيء فاحتياجه أشد ما يكون اليوم إلى زعماء يغرسون فيه حب وطنه، وهو في أشد الاحتياج أيضاً إلى ثقافة جديدة يحل فيها الأمان والتعاون والحب محل ثقافة الكراهية والتهميش والقهر والتفرقة، وتعقيل الإصلاح، وأن يكون إنساني النظرة وشامل الإحساس بالكون والحياة . . نتيجة لأنه يحيا في عصر كاد يلغي “محدودية” المكان، فوطن الإنسان الآن هو الكرة الأرضية وقضاياه كل ما يتصل ليس بذاته ووطنه فحسب، بل وبالإنسانية جمعاء، وبإصدار وتحقيق الدستور الذي يقود بالضرورة إلى فكرة القانون السياسي وتحقيق دولة القانون، وبالقدر الذي به تكون هذه القوانين ضرورية، أي صادرة طبيعياً عن مفاهيم القانون الحق، وهذا توكيد واضح لمبدأ الديمقراطية . إن صاحب الحق في التشريع هو الشعب، والمجتمع المدني أي الدولة الواحدة، والتشريع يجب أن يكون في خدمة الشعب من أجل حمايته وضمان حقوقه التي تحرسها جميع الدساتير الدولية المدنية وفقاً للقانون الكلي بما يتماشى مع حرية الغير، وهو حق مكفول للإنسان بمقتضى إنسانيته على اعتبار الفرد في الدولة دائماً عضواً يشارك في التشريع وليس مجرد وسيلة، بل هو في الوقت نفسه غاية في ذاته، وذلك حتى لا تتحول حقوق المواطن الليبي إلى عملية اعتيادية يمارسها من يريد، وحتى لا يتحول الوطن أيضاً إلى شركة تجارية أو مزرعة والشعب مجموعة موظفين يجوز طردهم من الشركة بقرار إداري لأتفه الأسباب . وأيضاً العمل على إبعاد رجال الأعمال من السياسيين وإلا فإن السياسة تصبح تجارة، وبدلاً من فن إدارة البلاد يأتي فن البيع والشراء، ويتقوّض الوطن وتصبح الوطنية مجرد سلعة للبيع والشراء، وبعد الاتفاق على تلك البديهيات بما يضمن سيادة ومصالح الشعب ممثلاً في برلمانه ومجالسه، إذ إن النظام التمثيلي يجعل الشعب في أشكاله المختلفة هو وحده الذي يملك حق تشريع القوانين بوساطة من يمثله، وله الحق على دولته التي تأخذ بيده إلى طريق العلم والمعرفة، وبما لا تعتبر الدولة أن تلك الأمور كلها ليست واجباً عليها وأنها إن فعلت فتفضّل منها، وكذلك التقدم في فهم حقوق الإنسان لفهم حق الإنسان في الحياة والمحافظة على خصائصه بما تحترم صفاته ومعتقداته . ومن خطبة ألقاها دوق جوبين ملك الصين لي وانغ عام 845 قبل الميلاد “يعرف الإمبراطور كيف يحكم إذا كان الشعب حراً في أن يتحدث عن كل شيء، والطلبة أحراراً في تعلم العلم، والوزراء أحرارا في إسداء النصح، والفقراء أحراراً في التذمر من الضرائب، والمؤرخون أحراراً في قول الحق” . هذه الكلمات ترينا مدى ما وصلت إليه البشرية في قديم الزمان من ديمقراطية تكاد تكون كاملة، سواء كان ذلك في نظام الحكم أو في نظام الأسرة والمجتمع . كل الأمل أن ينهض الشعب الليبي ويسير في طريق الحرية، فالحرية هي فضاء الحضارة وحق أساسي، ونعني بهذا أيضاً حرية الآخر، فالحرية ليست طرفاً واحداً، إنها حوار بين الأطراف وجدل بين جميع الأطراف إلى حد التقاطع والتعارض، فالمختصون يميزون بين حقائق الحرية وبين ثوابت الحق وأشكال الحياة . أما خفافيش الليل وحدها التي لا تستطيع أن تعمل إلا في الظلام عندما تتلبس أفكارها ونواياها بالفساد في خضم الأقنعة وخذلان المصداقية بسبب تلك الموجات غير المسؤولة، الأنانية والنفعية والانتهازية المفزعة والوحشية الخالية من القانون، وفي اشتداد حالة الارتماء والأيديولوجيات الثورية الفاسدة في فلاشات أفعال ذلك الهدير الذي لم يجلب إلا الارتطام والسقوط والضياع . نقلا عن الخليج