مازال حديثنا حول خارطة طريق في خضم دخولها عالم السياسة ،عبر الإعلان عن الترشح للانتخابات البرلمانية المزمع عقدها في القريب العاجل ، وعبر سباق يراهن عليه البعض بالتفوق العددي لصالح الأحزاب الوليدة ذات التوجه الاسلامى، ورهان البعض الآخر على غياب الوعي باركان اللعبة السياسية نتيجة غياب الخبرة في المجال السياسي ، وغياب بعضها عن المشهد السياسي نتيجة ممارسات القمع من قبل النظام السابق ، أو عبر قناعات داخل تلك الحركات تؤكد أن العمل الدعوى أسمى من العمل السياسي ، وبالتالي ترسخت تلك القناعات وتحولت إلى مسلمات ظهرت بوضوح عبر الخطاب الفكري لها ، ومن هنا فقدت تلك الحركات دورها ضمن الملعب السياسي . وهنا يشير الدكتور " عبد الحميد أبو سليمان " إلى أن الإشكال الأكبر الذي تواجهه مؤسساتُ الحركة الإسلامية في جُلِّ البلاد الإسلامية ، هو مشكلة الفهم الصحيح لطبيعة العمل الدعوي ومناهجه ووسائله ومجالاته، ومشكلة الفهم الصحيح لطبيعة العمل السياسي ومناهجه ووسائله ومجالاته؛ لأنه بالفهم الصحيح يمكن للأمة أن توظِّفَ كلاً منهما بشكلٍ فعَّالٍ في إعادة بناء المجتمع والأمة، وتحقيق غايات الإسلام وقيمه ومفاهيمه ومقاصده. فعمل الدعوة هو التربية والتعليم القيمي الأخلاقي الاجتماعي، جنباً إلى جنب، ودون تعارض مع مؤسسات تعليم القدرات والمهارات الحياتية الضرورية لرفاهة الأمة وتوفير حاجاتها. ويأتي دور جماعات الدعوة في الأساس في تعليم ثوابت الدين وقيمه ومفاهيمه ومقاصده، وبالأسلوب الصحيح الذي ينطلق من خطاب حُبِّ الله الهادي الغفور الودود الذي يحب المؤمن ويرعاه؛ لأن المؤمن بإيمانه يقصد ويرغب ويعمل من أجل تحقيق العدل والإصلاح، وهو يؤمن ويدرك أن الله لا يكره إلا الظلمَ والظالمين، والعدوانَ والمعتدين المصرِّين المعاندين، وبالعقل وبالفطرة السوية فإن كل ذي نفس سوية يكره كلَّ هؤلاء إذا تجبروا وأصروا على فسادهم وظلمهم وقسوة قلوبهم "إن الله لا يهدي القوم الظالمين" الأنعام/144؛ ذلك لأن ظلام نفوسهم يمنعهم من تلقي نور هداية العدل ورحمة الرحمن الرحيم. ولهذا يكون نشاط جماعات الدعوة هو في مجال الدعوة والتعليم وتقديم المزيد من العون والرعاية الاجتماعية، بكل أنواعها، لجمهور الأمة، وخاصة للضعفاء والصغار والمحتاجين. والدعوة بهذا المفهوم هي قاعدة الانطلاق في مجال "السياسة الإسلامية" التي تبني ضميرَها بما يجعلها تحرص في بناء مؤسسات أنظمة الحكم وبرامج الأحزاب السياسية قادرةً على أن تحقق مصالح الأمة الحياتية على أساسٍ من القيم والمقاصد الإسلامية السامية. أما إذا فرَّطتْ مؤسساتُ حركة الدعوة الإسلامية في أداء هذه المهمة فلن ينفعها ما يُكتَب في الدساتير، أو في غير الدساتير، وماذا نَفَعَ ما كان مكتوباً في دساتير الأنظمة التي اضطهدت رجال الدعوة ومارست عليهم جميع ألوان الفساد والاستبداد؟!. إن أحسنت الدعوة خطاب جماهير الأمة، وأحسنت تربيتهم، فإن ذلك هو الضمان الحقيقي لبناء النظام الإسلامي في السياسة والحكم وإدارة شئون الحياة. أما إذا فرطت مؤسسات الدعوة في ذلك فلن يفيد الأمة ما كُتِبَ وما يُكتب وما تُسَوَّدُ به صفحاتُ الخطبِ وأضابير الدساتير. يجب أن تعي الأمة والحركات الدعوية الإصلاحية هذا الدرس، وألا نلدغ من ذات "الجحر" على مَرِّ جُلّ تاريخنا مراتٍ ومرات. فالمعركة الحقيقية لإعادة بناء المجتمع الإسلامي تكمن في استعادة الأمة لحقوقها وواجباتها في حرية العمل وحرية الخيار وحرية العقيدة وحرية الفكر وحرية الدعوة إلى المبادئ والقيم والمقاصد الإسلامية القرآنية التي لا يختلف عليها جمهور أبناء الشعوب الإسلامية، كالإيمان بالله ورسوله وكتابه، وقصد العدل والمساواة والإحسان والإتقان، والسعي بالإعمار، والإصلاح والإخاء والتكافل، وضمان حق الحرية والاقتناع، وحمل واجبات المسئولية وأداء الحقوق والإخاء، والتزام كرامة الإنسان، ورفض جميع ألوان الاستبداد والفساد، ونبذ ممارسات الظلم والعنصرية. أما العمل السياسي فهو يتعلق بالبرامج التي تهدف إلى إدارة الحياة العامة بما يخدم مصالح جمهور الأمة بفئاتها المختلفة من دون إجحاف بأية فئةٍ من فئاته. وفي هذا المجال تتفاوت قدرات القيادات السياسية ورؤى كلِّ حزب سياسي وأهدافه فيما يقدمه من برامج تتعلق بشئون التعليم، وشئون الصحة، وشئون الاقتصاد: صناعةً وزراعةً وتجارةً وسواها من المهن والخدمات، وشئون العلاقات الدولية، وما سوى ذلك من شئون الحياة. هذا ما ستخبرنا عنه الأيام القادمة . ويبقى السؤال الأهم ما موقع الأمة ممثلة في الشعب من المشهد السياسي والى أي حد تتفاعل الأغلبية الصامتة مع الحدث ، وهل هي طرف ولا عب رئيس أم أنها مفعول به . هذا ما سيجيب عنه المقال القادم إن شاء الله تعالى.