منذ تسلم المجلس الأعلى للقوات المسلحة مهمة إدارة شئون البلاد، اتخذ موقفا مبني على تصوره للمرحلة الانتقالية، وهذا الموقف استمر ثابتا حتى نهاية شهر يونيو الماضي، ثم غير موقفه بعد ذلك منذ شهر يوليو وحتى الآن. لذا حدث ارتباك ناتج عن تغير تصورات المجلس العسكري عن المرحلة الانتقالية، سواء في مواقفه التي تغيرت، أو في مواقف القوى السياسية من قراراته، بالصورة التي أحدث قدرا واضحا من التغير في المواقف لمختلف الأطراف. وفي المرحلة الأولى، قام تصور المجلس العسكري على أنه يقف على مسافة واحدة من الجميع، وأنه ليس طرفا في العملية السياسية، بل وأنه لا يمارس سلطة أو دور سياسي، بل يمارس مهمة إدارية. وحدد أهدافه في تأمين عملية نقل السلطة، بإجراء كل التعديلات اللازمة لتعديل القواعد التي تجرى عليها الانتخابات، حتى تكون انتخابات حرة ونزيهة، دون أي تعديل في النظام السياسي نفسه، حتى يوضع الدستور الجديد. وكان واضحا من موقف المجلس العسكري، أنه يرفض حضور لحظة وضع الدستور، ورفض أن يعين مجلسا لوضع الدستور الجديد، ورفض أن يوضع الدستور قبل تسليم السلطة إلى سلطة مدنية منتخبة. ولهذا وضع خريطة طريق تبدأ بالانتخابات البرلمانية ثم الرئاسية، ثم تشكيل لجنة لوضع الدستور ثم الاستفتاء عليه، ويكون المجلس العسكري بهذا قد سلم السلطة قبل تشكيل اللجنة التي سوف تضع الدستور. وكان هذا تصور المجلس العسكري حتى تم الاستفتاء على التعديلات الدستورية. وكان تصوره أيضا أن التعديلات الدستورية تجعل دستور 1971 مؤقتا ومعدلا. وعليه يتم العودة للعمل بدستور 1971، حتى يوضع الدستور الجديد. وفي نفس هذه المرحلة تعرض المجلس العسكري لهجوم حاد من الفريق الذي رفض التعديلات الدستورية، لهذا قرر أن يجعل تشكيل اللجنة التأسيسية سابق للانتخابات الرئاسة، وجعل المجلس الأعلى للقوات المسلحة هو من سيدعو مجلسي الشعب والشورى لاختيار اللجنة، على خلاف ما تم الاستفتاء عليه. ثم لم يعيد العمل بدستور 1971، بل استخرج منه إعلانا دستوريا مستمدا منه، ليصبح دستورا مؤقتا، وذلك على خلاف القاعدة التي تم الاستفتاء عليها. ولكن هذه التغييرات لم تغير جوهر ما تم الاستفتاء عليه، ولم تغير كثيرا في خارطة الطريق، إلا بتقديم تشكيل اللجنة التأسيسية على الانتخابات الرئاسية، ولكن ظل موعد الانتخابات الرئاسية سابقا لوضع الدستور الجديد. ولم تعترض القوى التي أيدت التعديلات الدستورية، لأن الفارق لم يكن جوهريا. ثم في المرحلة الثانية، قرر المجلس العسكري منذ يوليو الماضي، تأجيل الانتخابات الرئاسية إلى ما بعد وضع الدستور الجديد والاستفتاء عليه، ولم يعلن ذلك رسميا، ولكن مهد له بتصريحات تؤكد أن الدستور سابق للانتخابات الرئاسية. ثم بدأ المجلس العسكري تحت ضغوط نفس الفريق الذي رفض التعديلات الدستورية، يحاول إصدار مبادئ دستورية ملزمة للجنة التأسيسية أو قواعد ملزمة لمجلسي الشعب والشورى لاختيار اللجنة التأسيسية، ولكنه لم ينجح في ذلك. وبهذا يكون المجلس العسكري قد قرر أن يكون طرفا في العملية السياسية، وقرر أن لا يكون على مسافة واحدة من الجميع، حيث أصبح يميل للفريق العلماني، ويحاول تعضيد حضوره في المشهد السياسي، تعويضا عن غيابه الشعبي النسبي. لهذا أصبح المجلس العسكري يرى أن عليه مراقبة اختيار اللجنة التأسيسية، والدستور الجديد، والتدخل عند الحاجة، رغم أنه لا يملك أي أساس قانوني أو دستوري للتدخل. ويفهم من هذا، أنه سيحاول التدخل لصالح الفريق العلماني، مما يعني أن ضغوط الداخل والخارج قد أدت إلى ارباك المجلس العسكري، ودخوله طرفا في عملية سياسية، بصورة تلحق به الضرر، خاصة وأن يخوض معركة في غير ميدانه. وليس معروفا على وجه الدقة، متى يمكن أن يتدخل المجلس العسكري، وهل هناك مخاوف حقيقية لدى الفريق العلماني، تستدعي تدخل العسكري، أم لا؟ فالمتوقع أن تشكل اللجنة التأسيسية من مختلف مكونات المجتمع، ولا يمكن توقع غير ذلك، ومن المتوقع أيضا أن يكون بها عدد مختار من مجلس الشعب. وكل هذا يفترض أن لا يدفع أحد لدفع العسكري للتدخل. كما أن الدستور المتوقع سيقوم على أساس الحكم المدني الديمقراطي، وعلى المواطنة والمساواة، والحقوق والحريات، ومرجعية الشريعة الإسلامية. وكل هذا متفق عليه في معظم الوثائق التي صدرت من القوى السياسية. مما يعني أن المشكلة سوف تظهر، إذا أراد الفريق العلماني تحصين عدد من مواد الدستور ضد أي تغيير، أي ضد الإرادة الشعبية الحرة، وإذا أراد هذا الفريق وضع دور سياسي ودستوري للقوات المسلحة المصرية لحماية المواد المحصنة، وهي الاقتراحات التي طرحت في وثيقة المبادئ الدستورية الحاكمة، والتي رفضت من التيار الإسلامي، وأوقفت أي محاولة لإصدارها. وتلك المقترحات، هي في مجملها ضد الإرادة الشعبية الحرة، أي أنها تنقص من حق الشعب المصري في اختيار دستوره وتعديله، بالصورة التي تعبر عنه. ودخول العسكري لصالح فريق علماني، ضد الإرادة الشعبية الحرة، يعني أن القوات المسلحة تتورط في عمل سياسي ضد الإرادة الشعبية، وهو ما يؤدي إلى انزلاق المجلس الأعلى للقوات المسلحة، في موقف يجعله ضد تحرير الإرادة الشعبية، وهو أحد أهم منجزات الثورة المصرية. لذا يعد بقاء العسكري حتى وضع الدستور، أمر يعرضه للانزلاق بأكثر مما يحتمل، وأكثر مما يجوز.