هل تتذكرونها؟ منذ عام ونصف بالتمام والكمال كتبت عنها، حاول الكثيرون التعرف إلى تجربتها، وطلب مني البعض التواصل معها ودعمها، ولكنها رفضت لسببين، أما وقد زال السبب الأول، والذي كان يتمثل في بطش النظام السابق، ومنعه الخير عن المجتمع في بعض الأحيان، فأنا الآن أورطها.. وأعيد نشر حكايتها مرة أخرى، لأن عمل الخير يمكن أن يكون في السر، ولكن الأفضل أن يعرفه الآخرون ليقتدوا به. هناك في محافظة البحيرة بدلتا مصر يعرفونها جيدًا، يتحدث الجميع عن مئات الشباب الذين بدءوا حياتهم من خلال قروضها، عن مئات أخرى من المشاريع التي فتحت أبواب الأمل للفقراء، ونقلتهم من مرحلة مد الأيدي والتسول، إلى مرحلة الإنتاج والمساهمة في بناء وتنمية الوطن، قد لا يعرفها أغلب قراء هذا المقال، ولكنها حفرت اسمها في سجلات الخالدين، عندما أبقت أعمالها تتحدث عن نفسها في الحياة الدنيا، وتركت آلاف الألسنة تلهج بالدعاء لها، ولمَ لا؟ وهي التي حولت فكرة بنك الفقراء الذي بدأه الدكتور محمد يونس في "بنجلاديش"، من مجرد أحلام وأفكار في الكتب والمقالات، إلى واقع ملموس في المجتمع المصري. بدأت الحاجة فاطمة –كما تحب أن أناديها- رحلتها مع الإقراض الخيري منذ زمن ليس بالبعيد، صحيح أنها تجاوزت الخمسين عامًا بقليل، وأنها دائمًا ما كانت تساهم في عمل الخير، وتقديم يد العون للمحتاج من خلال ما أتيح لها من إمكانيات مادية، ولكن بقي لديها الشعور بأن ذلك ليس كافيًا، وأنها لا تحل مشكلة الفقر، وإنما تزيد من جرعة المسكنات، بينما ستمتد يد الفقير للسؤال مرة أخرى، لأن العلاج الجذري يكون بتأهيله ليصبح قادرًا على الكسب والاكتفاء الذاتي، كانت البداية عندما قامت بإقراض بعض المعارف والجيران مبلغًا من المال بشكل شخصي ليمكن لهم بناء مسكن لائق، وإكمال متطلبات الزواج، ومن خلال احتكاكها بالفقراء لمست التغيير الذي يمكن أن يحدثه هذا المبلغ -رغم بساطته- في حياتهم، لتتمكن من دخول عالم آخر، تعرفت من خلاله على معاناة الآلاف ممن يعيشون على هامش المجتمع، وعند ذلك قررت أن تهب حياتها لتحسين الواقع المأساوي، واختمرت الفكرة في ذهنها بشكل أعمق، عندما قرأت عن تفاصيل تجربة الدكتور محمد يونس مع بنك الفقراء، وكيف استطاع أن يقدم نقلة نوعية لصالح التنمية في بلاده، من خلاله تقديمه قروضًا لأكثر من عشرة ملايين فقير غير مؤهلين للاقتراض من البنوك التقليدية، من خلال صيغ الاقتراض الجماعي بدون ضمان، في مقابل خلق مسؤولية تضامنية بين المقترضين. كانت تلك المعلومات هي المفتاح الذي انطلقت من خلاله الحاجة فاطمة، حيث قامت في العام 2007 برصد 40 ألف جنيه من مالها، كصدقة جارية تنوي استثمارها والمتاجرة بها مع الله، وبدأت في حشد مجموعة من المتحمسين لفكرة الإقراض الخيري، لتتمكن من تجميع سبعة سيدات من القرى المجاورة لها، تربطهم جميعًا الحماسة للفكرة، والرغبة في العمل التطوعي، ويبدأ فريق العمل مع الحاجة فاطمة في البحث عن الحالات التي تستحق المساعدة، ليتم إقراضها مبلغ يتراوح من 500 إلى 5000 جنيه، على أن يتم سداده على أقساط شهرية خلال عام بدون أي فوائد. ومن هنا كانت نقطة الانطلاق.. حيث بدأ عدد المستفيدين من المشروعات يتزايد بمرور الوقت، كما تنوعت المشاريع التي يتم تقديمها من محلات صغيرة للبقالة، إلى ماكينات للخياطة، مرورًا بالتجارة في الملابس والحاصلات الزراعية، بل تجاوز الأمر إلى تمويل الشباب بالأدوات اللازمة لتعلم الحرف، وتوجيههم في اختيار المهنة المناسبة، مثل السباكة والصيد ومنتجات الألبان، ولكن تقديم تلك القروض كان يتم من خلال مجموعة من الضوابط، فالقرض يقدم للسيدات فقط، حتى وإن كان المستفيد رجلاً، ووجهة نظرها في ذلك، أن المرأة عندما تقدم على الاقتراض، فإنها تكون حريصة على الاستفادة منه بأفضل شكل ممكن، لأنها تبحث عن إطعام أطفالها، كما أن تجربتها مع السيدات أثبتت التزامهن بسداد القروض في موعدها. بالطبع لم يخل الأمر من بعض المعوقات التي لازمت خطوات الإقراض الخيري، وكان على رأسها حالة اللامبالاة والكسل التي أصابت الكثير من الفقراء، وجعلتهم ينتظرون وصول لقمة العيش والمعونة بدون بذل أي مجهود، لقد أدركت الحاجة فاطمة أننا أحيانًا ما نساعد على استمرار حالة الفقر بتقديم المساعدات المجردة للمحتاج، ولذلك كانت مهمة مجموعة العمل المصاحبة لها هي التنقيب في كل مكان عن الفقراء الجادين الراغبين في العمل، أو عن الشباب الراغب في الزواج، أو في بناء مسكن للمأوى، ثم يتم المقابلة الشخصية لهذه المجموعات، للتأكد من جديتها في تنفيذ المشروع، ليبدأ تقديم القرض الأول من خلال التضامن فيما بينها، وعند الانتهاء من سداده بانتظام، يمكن تقديم قرض ثاني مضاعف لمن يثبت جدارته بذلك، وخلال تلك الفترة تتم المتابعة الدقيقة لمراحل نمو المشروع مع تقديم التوجيه والدعم الممكن لأصحابه. وبالرغم من أن العمر الفعلي للفكرة لم يتجاوز الخمس سنوات، إلا أن ما تحقق خلال هذه الفترة القصيرة، ومن خلال هذا المجهود الفردي يساوي الكثير، فقد تمكنت خلال عام واحد من تقديم 137 قرض، والمساهمة في بناء 21 منزل، بالإضافة إلى تزويج 89 من الشباب والفتيات، وتمكنت من مضاعفة رأس المال الذي تقدمه في القروض، وهي تخطط الآن لتضاعف من أعداد المستفيدين، كما تستهدف أن تبدأ في بناء منازل (شعبية) تقدمها لمن يستحق، مجرد غرفة وصالة، تصلح أن تكون منزل بسيط لشاب وفتاة، يبحثان عن شق طريقهما في الحياة، من دون البحث عن المظاهر الكاذبة. لقد قدمت الحاجة فاطمة الدرس لنا جميعًا في الايجابية، والحرص على إيقاد شمعة تنير الطريق للآلاف، بدلاً من الاكتفاء بمصمصة الشفاه، ولطم الخدود على أحوالنا، استطاعت تلك المرأة أن تتجاوز بأعمالها الكثير من الرجال، وقدمت أفضل نموذج في العمل بصدق وإخلاص ومن دون ضجيج، لتكتفي بدعاء البسطاء لها، والحب والتقدير الحقيقي من الكثيرين، وأجدني أختم بالوصية التي حرصت هي أن تنقلها إلى الجميع: "أرجوكم عيشوا من أجل رسالة، اصدقوا النية لتقديم الخير للمجتمع وساهموا في نهضته، لا تفتشوا عن الأعذار، بقدر بحثكم عما سيخلد اسمكم بعد رحيلكم عن الدنيا، وعندها سيجد كل منكم الحل، ويجد ألف طريقة يعمل من خلالها". [email protected]