عُرس الانتخابات في العراق جارٍ على قدم وساق، وجارية بموازاته خطوات "العراق الجديد" الراسخة باتجاه استحقاقات الاحتلال. "الحكومة الوطنية" ترفع الدعم عن الوقود والمواد الغذاية استيفاءً لشروط الاقتراض من البنك الدولي. العراق على طريق الأرجنتين والأكوادور ودول أفريقيا مزمنة الديون والتي يذهب نصف ناتجها القومي لخدمة الديون. لجوء الحكومة العراقية إلى البنك الدولي لم يكن خياراً من بين عشرات الخيارات التي انكب عليها مجلس خبراء الحكومة في في موازنة متأنية بين المصالح والمفاسد. القرار ببساطة هو تنفيذ لوصية الحاكم "المدني" الأمريكي "المنصرف" بول بريمر لتمويل مشاريع إعادة البناء، التي ستفوز بها ومن دون مناقصة الشركات المفضلة لدى البنك، والتي تضم عادة شركات هاليبورتون وبيكتل وكلوك براون آند روت، والأخيرة فرع من هاليبورتون، والجميع تعود ملكيتها إلى آل البيت الأبيض؛ تشيني وشولتز ورايس وبوش. ويجدر بالذكر أن رئاسة البنك كانت قد آلت منذ وقت قريب فقط وبقرار من بوش إلى أيدي بول فولفتز، أحد المهندسين الرئيسيين والمنظرين للحرب على العراق وسيناريوهات لمرحلة ما بعد الحرب. بالإمكان القول: إن العراق بهذه الخطوة يكون قد دخل طور تقنين الاحتلال؛ فطلائع "الجيش العراقي الجديد" نالت شهادة التأهل وتتولى ومنذ حين أعمال الدهم والقتل ومقاومة المقاومة، وتتهيأ الوزارات لمسؤولية تحويل أعمال النهب التي تشرف عليها الدبابة والهمفي منذ 9 أبريل 2003، إلى عقود رسمية طويلة الأجل، بإشراف مصارف عالمية وقوانين التجارة الدولية، وتنشر أرقامها في البورصات ودوريات المال والأعمال وبشكل "حضاري" يليق بدولة كأمريكا. أي أن الدمار الذي جلبته طائرات إف 16 و 18 والشبح والكروز والهمفي وكان ثمن وصول ساسة العراق الجدد إلى سدة الحكم، هذا الدمار تتوجه خلفه مباشرة شركات بكتل وهاليبورتون لإعادة بنائه، أي أن الفاتورة تدفع مرتين، والبضاعة المشتراة هي سلطة الحكم! ويصح كذلك صياغة الفقرة السابقة بالقول: إن صناع السلاح الذين ينتجون طائرات ال إف 16 و18 والشبح والكروز والهمفي يذهبون لتدمير بلد ما كالعراق، ثم تتوجه خلفها مباشرة شركات هالبيرتون وبيكتل لإعادة الإعمار، والرابح في الحالتين نفس الجهة! ويتذكر العراقيون مبالغة آلة الدمار الأمريكية في تدمير البنى التحتية المدنية العراقية التي لا صلة لها بالجهد الحربي بشكل من الأشكال، وهي جميعها اليوم على قائمة إعادة البناء. المشكلة لم تنتهِ بالنسبة للمحتل. فالاقتصاديات المنهكة لا تقدر على سداد الديون، ولا حتى فوائدها الربوية، ولا يقدم البنك الدولي على الدخول معها في مغامرات غير محسوبة النتائج، وبالتالي فلا قروض ولا عقود. المخرج هو أن تحسب الفوائد النهائية المترتبة على القرض المطلوب وتضاف إلى سعر السلع الأساسية، ويقوم المواطن نفسه بتسديد الفوائد بأقساط مريحة تمتد مدى العمر، يقوم بدفعها على شباك المخبز أو محطة الوقود أو لمحاسب الصيدلية، حيث يصاحب عملية تسديد الديون تقليص شديد في الخدمات الاجتماعية، قبل أن تتأهل الدولة للقرض. لا يخاطب المواطن بطبيعة الحال بهذه البراءة اللغوية، وإنما يقال: انتقال البلاد إلى الاقتصاد الحر أو اقتصاد السوق، ورفع الدعم الحكومي. وقد قادت نصائح البنك الدولي في دفع اقتصاديات الشعوب المنهكة باتجاه التحول السريع إلى اقتصاد السوق إلى كوارث اقتصادية، لم تعد بالنفع سوى على الشركات الكبرى. ومن هذا المنطلق رفضت ماليزيا مساعدات الصندوق المثقلة بالشروط إبان الأزمة الاقتصادية لنمور آسيا، ونجت من المعاناة المزمنة لجاراتها التي قبلت بتلك المساعدات. المصيبة الأعظم هي أن الفوائد التي ستغطيها الإضافة الجديدة في سعر رغيف الخبز والوقود والدواء لا تذهب في الحقيقة إلى تمويل أثمان واقعية لمشاريع إعادة بناء، فلكثرة ما تحدث العراقيون عن عقود بملايين الدولارات فازت بها هالبيرتون دون مناقصة، لكنها عادت وباعتها لشركات "وطنية" بربع الثمن، لتتكرر عملية البيع ثانية وثالثة حتى تصل إلى الثمن الواقعي للمشروع والذي لا يصل إلى عشر الثمن الذي قبضته هالبيرتون، ولكن الفائدة التي يتحملها المواطن هي ما ستترتب على القرض الذي سيغطي العقد الذي فازت به هالبيرتون! يقول "جون هوبكنز" المسؤول السابق في البنك الدولي ومؤلف كتاب (اعترافات سفاح اقتصاد): "إن من بين مائة من أكبر الديمقراطيات في العالم، هناك 52 منها عبارة عن شركات، و47 منها شركات أمريكية وليست دولاً، ونحن عبارة عن 5% من سكان العالم نمتد مثل أخطبوط هائل ونمتص إلى داخل بلادنا 25% أو أكثر من موارد العالم". ما قصده المسؤول السابق هو تحكم الشركات متعددة الجنسيات بالاقتصاد المحلي للدول المدينة، ومن ثم ارتباط المواطن فيها بالخدمات الاجتماعية والسكنية والصحية والتقاعدية التي تمنحها هذه الشركات لمنتسبيها، وعلى حساب العلاقات الطبيعية بين المواطن والدولة. السؤال المهم هنا: هل يتبع المواطن في دولة "العراق الجديد" دولة أم شركة؟ وهل يبدأ هذا المواطن يومه الجديد بمطالعة أخبار الوطن والدولة المشلولة، أم يستشرف مستقبل الشركة العامل فيها، وأداء أسهمها التي يرتبط بها مستقبله ومستقبل أسرته؟ وماذا يكون قد تبقى من الوطن بعد أن اصطفت الميليشيات الشيعية الطائفية كالبنيان المرصوص إلى جنب جيوش أمريكا وبولندا وهندوراوس وكوريا وهنغاريا حول المدن العراقية الثائرة بوجه للاحتلال وهدمها على رؤوس ساكنيها؟ [email protected]