تذكرنا سياسات المجلس العسكري بسياسات المخلوع (غير المأسوف عليه) مبارك سواء في الاختيارات السياسية أو اختيار المسئولين (وزراء – محافظين) أو في اتباع منطق الخطوة خطوة (التفكير بالواحدة وليس التفكير المنظومي المتسق) أو في ردود الأفعال التي ينطبق عليها المثال الإنجليزي (Too Little Too Late) قليل جدًا ومتأخر جدًا أو سيادة منطق رد الفعل العشوائي وعدم التصرف إلا تحت الضغوط أو استجابة لها. ومن يرصد خطوات ثورتنا المباركة وردود فعل مبارك القليلة والمتأخرة يدرك أنها كان يمكن أن تجهض لو استجاب مبارك استجابات مؤثرة وفي وقتها؛ فكلما تأخرت استجابته ارتفع سقف المطالب. كانت أقصى طموحات الثائرين أن يخرج قطار التوريث عن مساره أو حتى إقالة نظيف وعزل صفوت الشريف أو إقالة عز؛ لو كانت استجابته في توقيتها صحيح وبالدرجة المطلوبة لأخذ لتاريخ المصري مسارا آخر. إنما هكذا الحاكم المعزول عن شعبه المحاط ببطانة السوء ومستشاري السوء أمثال زكريا عزمي وحسين سالم وبقية العصابة المجرمة التي أحاطت به إحاطة السوار بالمعصم وأرته الأمور على غير حقيقتها (حقيقة هو كان عنده الاستعداد الكامل لذلك؛ فهذه البطانة هو من اختارها ومن قربها وهكذا الطيور على أشكالها تقع وبطانة الحاكم جزء من منهجه في الحياة وطريقته في التفكير). أقول لو كانت استجابة مبارك مبكرة نوعا ما وكافية بشكل أكبر لتغير التاريخ. لكن هكذا إذا أراد الله شيئا هيئ له الأسباب؛ وكانت إرادة الله لهذه الأمة المصرية أن تلبس ثوب كرامة وفخار بعد عقود مهانة وذل؛ سيم المصريون فيها الهوان في الداخل والخارج. نظام حكم كان قزما فقزّم مصر: دورا ومكانا ومكانة. أراد الله لهذه الأمة أن تسترد وعيها ورشدها وكرامتها وحريتها فأعمى بصر الحاكم الغشوم وبصيرته وكانت كل خطوة تسلم لأختها فتحرك سيل المطالب من مجرد رفع الحد الأدنى للأجور إلى المطالبة بإعدام الرئيس (الشعب يريد إعدام الرئيس) وكان الشعب حكما عدلا نصب المحكمة وكان الشهود 80 مليون مصري (منهم: 9 مليون مرضى بالفيروسات الوبائية؛ ومثلهم أو يزيد مشردون في الخارج بحثنا عن حياة أفضل حتى وإن كانت عيشتهم كريمة فهم مغتربون ولا ينبئك مثل خبير؛ وانهيار سلّم القيم بل ضياع القيم ذاتها حتى أصبحت الرشوة تمشية حال؛ والسرقة تفتيح مخ؛ والانحراف الأخلاقي فنا). إن مبارك لا يجب أن يحاكم جنائيا فقط عن قتل المتظاهرين إنما يجب أن يحاكم عن سياسيا عن جريمة إفساد الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية في مصر؛ يحاكم عن جريمته في محاولة توريث حكم مصر لابنه وكأن مصر بتاريخها وحضارتها عزبة ورثها عن أبيه وجده؛ يحاكم عن جريمته في تقريب أمثال زكريا عزمي وحسين سالم وأحمد عز وصفوت الشريف وبقية أركان الإجرام التي استحلت المال الحرام والدم الحرام وباعت البلد في سوق النخاسة الدولية (ما أذل الدول حين يحكمها السماسرة والمرتشين). تذكرنا سياسات المجلس العسكري بكل تفاصيل تلك الحقبة المظلمة من تاريخ مصر وكان أخر الدواهي تمديد قانون الطوارئ الذي سيكون نقطة المفاصلة في مسار العلاقة بين الشعب المصري والمجلس العسكري. كان لهم من موقفهم المشرف من الثورة رصيد وافر عند الشعب الذي رفع شعار: الشعب والجيش يد واحدة. لكن على مدار الشهور الماضية ظل المجلس العسكري يسحب من رصيده حتى أفلس. ضرب المتظاهرين السلميين وحوّل المدنيين إلى محاكمات عسكرية (في الوقت الذي يحاكمون فيه مبارك والعادلي محاكمات مدنية) فكانت الرسالة من الشعب المصري إليهم: رصيدكم أوشك على النفاد؛ ثم ظلّوا في اتباع نفس سياسات مبارك المدمرة (مواقف وسياسات وأشخاص) فكانت الرسالة من الشعب المصري إليهم: إن رصيدكم بحاجة إلى إعادة شحن؛ ثم كانت الطامة الكبرى تمديد قانون الطوارئ فسمعوا الرسالة المصرية واضحة جلية: عفوا لقد نفد رصيدكم. وكدتم أن تكونوا ومبارك سواء. عفوا: لن نستعبد بعد اليوم، عفوا: لن نقبل بأن نداس بالبيادات العسكرية مرة أخرى سواء أكانت بيادات ضباط الشرطة العسكرية أو بيادات الداخلية لضباط أمن الدولة أقصد الأمن الوطني (وإن كان لا فرق). كلمة أخيرة: يبدو أن هناك بعض الصالحين من أعضاء المجلس العسكري الذين كانت وقفتهم مع شعبهم حقيقية ومن القلب فأرسل الله لهم هديتين أو مخرجين من ورطة تمديد قانون الطوارئ: الأولى: تصريحات الحكيم البشري (كما ينادي أستاذنا الدكتور سيف الدين عبد الفتاح القاضي الجليل المستشار طارق البشري) وهي أنه لا إمكانية دستورية لتمديد قانون الطوارئ، وهي فرصة ومخرج كريم: لهم وللشعب، لهم أن يتراجعوا مع حفظ ماء الوجه؛ وللشعب ألا يفرضوا عليه معركة الخروج للميادين بالملايين مرة أخرى. والهدية الثانية: مبادرة التوافق الشعبي وهي صوت عميق يناديهم ويحذّرهم ألا يسدروا في غيهم؛ انتبهوا أيها العسكر لقد بلغ السكين العظم؛ والتف حبل الاستبداد حول الرقبة. الإخوة في المجلس العسكري: مصر ليست غنيمة حرب لم تخوضوها، ولا غنيمة باردة لم تدفعوا ثمنها، حذار من بطانة السوء ومستشاري السوء الذين أوردوا مبارك المهالك (مع كل ما تحاولوا أن توفروه له من تقاعد كريم؛ لولا سيف الرقابة الشعبية المسلط على رقاب الجميع). رجاءً: لا تفرضوا على الشعب معركة أخرى؛ الناس عرفت طريق الميادين؛ وكسرت حاجزي: الصمت والخوف؛ وتعلمت أساليب العصيان المدني؛ وأيقنت بكرامة الشهداء. رجاءً: لا تجعلوا الناس تهتف مرة أخرى: "حرية .. عدالة .. كرامة إنسانية".