تتجه الأمور في البيت الأبيض نحو تراجع واضح ومبرر لإدارة الرئيس الأمريكي جورج فيما يخص الخطة المعلنة منذ سنوات لنشر الديمقراطية في منطقة الشرق الأوسط بعد الفوز الساحق لحركة حماس الإسلامية في الانتخابات التشريعية الفلسطينية الأخيرة. هذا ما تحدثت عنه صحيفة " الفايننشال تايمز" مؤخرا في إشارة إلى تحريض المحافظين الجدد المحيطين حول بوش لمراجعة كل تلك الخطط المتعلقة بنشر الديمقراطية في الشرق الأوسط, إذ إنه ومنذ الفوز الكاسح لحماس انهالت على مكتب بوش عشرات التقارير والدراسات التي تنصح بالتروي والإبطاء في مسألة نشر الديمقراطية في الشرق الأوسط. ومما عزز من قوة هذه الضغوط توصيات عديدة صدرت عن المراكز البحثية والفكرية المحافظة والداعمة للإدارة الجمهورية في البيت الأبيض, والتي تمثل أصلا مؤسسات صنع القرار في واشنطن, حيث دعت بدورها إلى عدم الضغط على الأنظمة (العربية), والتوقف عن المضي قدما في اتجاه فرض نموذج نشر الديمقراطية في شرق أوربا على دول المنطقة الإسلامية. «التروي".. هو حقيقة الموقف اليوم في البيت الأبيض, ومرد ذلك كما هو واضح دراسة كل السيناريوهات المحتملة في المنطقة في إثر زلزال حماس, حتى لا تكون "الدمقرطة" الأمريكية مسمارا أخيرا في نعش بوش كما يتخوف البعض. وتأسيسا على ذلك, تلمس بعض أركان إدارة بوش أن ثمة انقسامات خطيرة ومؤذية خلفها فوز حماس بين تيار المحافظين الجدد الذين تبوءوا منصب القيادة الأيديولوجية منذ هجمات 11 سبتمبر 21 على الولاياتالمتحدة. في "دولة" المحافظين الجدد اليوم رأيان فيما يتعلق بتداعيات فوز حماس, الأول يدافع عن نتائج الانتخابات الفلسطينية باعتبارها وسيلة مفيدة لجعل حماس مسئولة عن تصرفاتها وتطويع مواقفها, والآخر ينتقد هذا الموقف انطلاقا من قناعاتهم الرافضة للتعامل مع الإٍسلاميين. وتبعا لهذين التوجهين, ثمة من يرى أن فوز حماس عزز الصعود الإسلامي كثيرا بشكل أصبح معه نشر الديمقراطية الأمريكية في المنطقة أمرا صعبا محفوفا بالمخاطر والتبعات غير المرغوبة, إذ إن المكاسب الانتخابية التي جناها الإسلاميون عام 25 في إيران (فوز التيار المحافظ في انتخابات الرئاسة), وفي مصر (فوز جماعة الإخوان المسلمين بخمس مقاعد البرلمان لأول مرة) وأخيرا في فلسطين, بدأت "تهز إيمان المسئولين الأمريكيين بإسقاط عملية فرض الديمقراطية في شرق أوربا بعد انهيار الاتحاد السوفيتي على دول منطقة الشرق الأوسط, وباتت قناعتهم بتكرار هذا النموذج الأوربي بين دول المنطقة ضعيفة", بعد أن كانوا يرون أن نشر الديمقراطية وسيلة ناجعة لمكافحة "الإرهاب" القادم من تلك المنطقة. والخلاصة أن إدارة بوش بدأت تصغي بالفعل إلى هذه الأصوات المنادية بتأجيل "دمقرطة" الشرق الأوسط أو حتى إلغائها, مما يدخل المنطقة في حراك جديد ويعيد اللاعبين القدامى إلى الساحة مجددا, بل ينسف الشكل المفترض للشرق الأوسط الجديد برمته. ومن بين هذه النصائح والنداءات التي تدعو بوش إلى عدم التسرع والضغط من أجل فرض الديمقراطية على الشرق الأوسط, ما قاله أريل كوهين الباحث في "مؤسسة هيريتج" -مركز الدراسات المحافظ الداعم للسياسة الخارجية لبوش-: إن "الدرس المستفاد من فوز حماس هو أن عملية نشر الديمقراطية يجب أن يتم إبطاؤها وإضفاء صبغة واقعية عليها, إضافة إلى وجوب اعتبار الدمقرطة عملية طويلة المدى", معتبرا الانتخابات ليست هدفا في حد ذاتها. ورأى كوهين, في ورقة بحثية عن الشرعية التي اكتسبتها حماس بفوزها في الانتخابات, أنه يجب أن يتم النظر إليها باعتباره "حادث كارثي يوجب إعادة تقويم السياسة (الأمريكية المتبعة) في الشرق الأوسط". كذلك فإن "نيكولاس جفوسديف", رئيس التحرير التنفيذي لدورية "ناشيونال إنترست" الأمريكية التي تروج لإتباع سياسة خارجية "واقعية", رأى بدوره أن بعض المسئولين الأمريكيين بدءوا بالفعل يشككون في الطرح الذي عبر عنه بوش في خطاب التنصيب لولايته الثانية قبل أكثر من عام حين قال: "إن نشر الديمقراطية في الشرق الأوسط يمثل ضرورة أخلاقية ومصلحة وطنية أمريكية"! المصدر : العصر