لا اظن ان موقف رجب طيب اردوغان رئيس وزراء تركيا من العلمانية يحتاج الى تفسير، خاصة بعد ان قال ان تصريحاته حول العلمانية في مصر اسيء تفسيرها، وانه ليس علمانيا بالمعني الاوروبي للكلمة وانما هو رئيس وزراء مسلم لدولة علمانية! اردوغان لم يكذب ولم يتجمل فهو رئيس وزراء مسلم لدولة علمانية، وتركيا وفقا لدستورها الصادر في عام 1982 دولة علمانية، مع ان 99,8 % من مواطنيها مسلمون، والعلمانية كما عرفها الدستور التركي هي وقوف الدولة على مسافة متساوية من كل الاديان، وسواء اتفقت او اختلفت مع هذا الوضع فالاتراك ادري بشئون بلادهم! العلمانية التركية في مفهوم أردوغان لا علاقة لها بالعلمانية الاوروبية المرادفة للادينية، والرجل حين وصف تركيا بالعلمانية كان يتحدث عن وضع قائم، وكان يقصد انها دولة تؤمن بحرية العقيدة ولا تضطهد احدا علي اساس الديانة او المذهب، وانها تتعامل مع الجميع في الداخل والخارج بدون تفرقة ! لم يكن اردوغان يروج للعلمانية كما حاول العلمانيون في مصر ان يزعموا ، ولم يكن يدعو للادينية الاوروبية بمعناها الالحادي، وانما كان يدعو لاقامة دولة مدنية في مصر تحترم كل الاديان ، واذا كان البعض يتفق او يختلف مع هذه الرؤية فهذا حقه، ولكن اردوغان كان يطرح وجهة نظره دون تدخل في شئوننا الداخلية ومن منطلق ما وصفه بالمحبة في الله لمصر والمصريين! اردوغان مسلم ملتزم يدافع عن حقوق الشعوب الاسلامية وفي مقدمتها حق الشعب الفلسطيني في الحرية والاستقلال وترتدي زوجته وابنتيه الحجاب، لكنه ليس حسن البنا او سيد قطب او يوسف القرضاوي، كما ان حزبه (العدالة والتنمية) الذي تأسس في عام 2001 ليس نسخة من الاخوان المسلمين، بل ان المفهوم التركي للاسلام له خصوصيته، فهو لا يري اي تعارض بين الاسلام والديمقراطية الغربية كما يرفض النظرة الاحادية ويدعو للانفتاح على العالم بما يحقق مصالح الامة! حزب العدالة والتنمية في الحقيقة -وكما يصف نفسه- ليس حزبا دينيا، ولا يستخدم في خطاباته شعارات دينية، فهو حزب محافظ ليبرالي معتدل، غير معاد للغرب يتبني راسمالية السوق ويسعي لانضمام تركيا الى الاتحاد الاوروبي دون تنازل عن هويتها القومية او الاسلامية، ويمكن تصنيفه باعتباره حزبا سياسيا ذا جذور اسلامية. قبل عشر سنوات عقد الحزب مؤتمرا في اسطنبول، وتحدث قادة الاحزاب الاسلامية المشاركة من كل انحاء العالم عن امنياتهم للمستقبل، فتحدث البعض عن تحرير فلسطين وطالب البعض بمواجهة امريكا ودعا آخرون لاسقاط النظم الكافرة، وحين جاء الدور علي اردوغان وكان وقتها عمدة اسطنبول قال ان شغله الشاغل حل مشكلة القمامة في اسطنبول! في عام 2003 تولي اردوغان رئاسة وزراء تركيا وخلال تسع سنوات نجح مع قادة حزب العدالة والتنمية في تحويل تركيا الى قوة اقليمية كبري تتمتع بالامن والاستقرار، بعد ان تصالح مع الارمن بعد عداء تاريخي، وكذلك مع اليونان وفتح جسورا مع اذربيجان وبقية جمهوريات الاتحاد السوفيتي كما قرر دعم كافة اشكال التعاون مع العالم العربي وايران. والحقيقة ان تركيا لم تحقق نهضتها الحالية بفضل العلمانية، فالعلمانية موجودة في تركيا منذ عام 1924، ولكنها حققت نهضتها بفضل الديمقراطية واقامة دولة القانون ومحاربة الفساد وتفرغ المؤسسة العسكرية لشئون الدفاع ،ولا مجال للربط بين العلمانية التركية والديمقراطية، فالعلمانية التي طبقها كمال اتاتورك منذ 87 عاما كانت معادية للديمقراطية على طول الخط، ، بل ان كل الانقلابات العسكرية التي شهدتها تركيا دفاعا عن العلمانية كانت موجهة اساسا لضرب التحول الديمقراطي! التجربة التركية نموذج فريد ولها خصوصيتها وقد يكون من الصعب استنساخها في مصر، لاختلاف الظروف السياسية والفكرية والاقتصادية، لكن لا يوجد ما يمنع من الاستفادة منها، خاصة وانها جاءت وليدة تحولات سياسية استمرت87 عاما، وانتهت بوصول حزب العدالة والتنمية الى الحكم في انتخابات عام 2002 بعد ان جرب الاتراك كل الاحزاب الاخري ولم تحقق لهم شيئا كبيرا! اردوغان رئيس وزراء مسلم في دولة علمانية، هذه هي الحقيقة وهذا هو الرجل كما هو ، وبامكانك ان تقبله او ترفضه او تتحفظ على بعض أفكاره، لكنه رجل دولة حول تركيا الى القوة الاقتصادية رقم 17 عالميا والقوة العسكرية السادسة عالميا والاولي شرق اوسطيا!