ما رأيكم لو حلقنا بعيدًا هذه المرة، دعونا نلتقط بعض الأنفاس من أخبار المحاكمات، والمليونيات، هذه دعوة لننظر للآخر ونستخلص الدروس المستفادة، فما أحوجنا الآن إلى أن نتطلع للمستقبل ونرسم ملامحه. لم يحمل فوز حزب العدالة والتنمية في الانتخابات البرلمانية التركية أي مفاجآت جديدة، فقد كان الحزب يتصدر استطلاعات الرأي، ويراهن على حجم الإنجازات الواضح، التي لمسها رجل الشارع العادي، وكانت سببًا في منحه الثقة لأردوغان، للمرة الثالثة على التوالي، ولكن الجديد هذه المرة.. هو التشكيلة الحكومية التي أعلنها رئيس الوزراء، وصدق عليها البرلمان، والتي تحتاج منا إلى وقفة، ونظرة متعمقة، ففيها الكثير مما يمكن فهمه، وترجمته إلى العديد من الدروس المستفادة. الملاحظة الأولى التي تجب الإشارة إليها هي حرص "أردوغان" على استكمال مسيرة انجازاته، بأغلب الوجوه التي حققت النجاحات في حكومته الثانية، مع إجراء تغييرات محدودة في عدد من المقاعد الوزارية، فمن بين 25 حقيبة وزارية؛ جاء "أردوغان" بستة وزراء جدد فقط، مع إجراء تبادل آخر في بعض الحقائب بين الوزراء، كان أبرزها في وزارات الداخلية والدفاع والتعليم، ويبدو في الأمر مخاطرة من جانب "أردوغان"، في مجتمع يعشق التغيير المستمر، ولا يسمح برؤية نفس الوجوه لفترة طويلة، ولكنه اختار أن يبعث برسالة إلى الشارع التركي مفادها أنه يراهن على ثقة المواطن، من خلال حجم الإنجازات التي تم تحقيقها، وأنه لازال متمسكًا بنفس الفريق الذي حقق هذه الإنجازات، مع تطعيمه ببعض الوجوه الجديدة، وكل ذلك بهدف السير على نفس الطريق واستكمال مسيرة النجاح. الملاحظة الثانية في التشكيل الوزاري تتمثل في معدل أعمار الوزراء في الحكومة الجديدة، التي تضم ثلاثة أجيال من الوزراء، أصغرهم هو "سعاد كيليج" والبالغ من العمر 39 عامًا، أما أكبرهم فهو وزير الثقافة والسياحة "أرتوغرول غوناي" الذي تجاوز السابعة والستين من عمره، أما متوسط أعمار الوزراء في الحكومة فهو 52 عامًا بالتمام والكمال، وهو معدل مقبول قياسًا على العديد من الدول الأخرى، ولكن الملفت في قضية أعمار الوزراء، هو إصرار أردوغان على الاحتفاظ بالعديد منهم، بالرغم من تقدمهم في العمر، وذلك بسبب الاستفادة من خبراتهم الكبيرة، وإنجازاتهم التي لا يختلف عليها اثنان، خذ عندك مثلاً وزير الأشغال والمياه "فيصل أروغلو"، وهو من مواليد العام 1949، أستاذ جامعي متخصص في مجال الهندسة المدنية والمياه، كما عمل رئيسًا لهيئة المياه والصرف باسطنبول في أواسط التسعينات، عندما كانت المدينة تغرق في بحر من المشكلات، على رأسها أزمة مياه الشرب والصرف الصحي، والجميع يذكر لهذا الرجل كفاءته غير المسبوقة، والتي مكنته من حل كل المشكلات في فترة وجيزة، ليصبح بعد ذلك مسئولاً عن هيئة بناء السدود والري في تركيا، والتي أقامت في عهده العديد من المشاريع العملاقة والمتميزة. أما هيكل الحكومة الجديدة؛ فقد تم تعديله بشكل ملحوظ يسمح بمرونة أكبر، وتبادل أعمق للخبرات مع الأجيال الجديدة من الشباب، ولذلك فقد تم استحداث منصب نائب الوزير، وهو المنصب الذي يتم تفعيله للمرة الأولى لصناعة جيل جديد من الشباب، يقوم بممارسة المهام الإشرافية والتنفيذية في كل وزارات الدولة، بالإضافة إلى ذلك؛ فقد تم تعديل الهيكل العام للحكومة بإلغاء 8 وزارات، وضم وزارتين، وإضافة أربع وزارات جديدة، أبرزها وزارة التنمية، ووزارة شئون الاتحاد الأوروبي، وهي الوزارة التي تولى حقيبتها "عجمان باغيس" ذو الأربعين عامًا، ويشغل منصب نائب رئيس العلاقات الخارجية في الحزب، ورئيس لجنة العلاقات التركية الأمريكية، وبالطبع يحمل إنشاء هذه الوزارة الكثير من الدلالات، حول الاهتمام التركي بقضية الانضمام للاتحاد الأوروبي، واستغلالها جيدًا على المستوى الشعبي، وكذلك كورقة ضغط في المواجهة المستمرة مع الجيش. نأتي للنقطة الأخيرة والأهم؛ حول برنامج عمل الحكومة في السنوات الأربع القادمة، والذي أوضح تفاصيله "أردوغان" في خطابه الأخير بالبرلمان، حيث جاء برنامج الحكومة معبرًا عن رؤية حزب العدالة والتنمية لتركيا عام 2023، من خلال برنامج اقتصادي متميز يحقق المعادلة الصعبة، بمعدلات نمو مرتفعة، بالإضافة إلى تحسين مستوى الدخل للمواطن العادي، والقضاء على الفقر، كما يهتم البرنامج بتطوير أداء الوزارات، والبدء في تنفيذ المشاريع العملاقة التي كان قد وعد بها، مثل قناة اسطنبول المائية؛ التي سيتم شقها بالتوازي مع مضيق البوسفور، وكذلك بناء مطار عملاق ثالث في اسطنبول، وتشغيل قطار فائق السرعة يربط محافظات البلاد بحلول عام 2015، وبمسافة تزيد عن 3500 كيلومتر، وإحياء خط السكة الحديد الذي يصل اسطنبول بمكة المكرمة، كذلك ركز "أردوغان" في برنامج حكومته على قضية التكنولوجيا والبحث العلمي، والتي تم استحداث وزارة جديدة لها تضمها مع الصناعة، تحت قيادة "نهاد أرغون" المعروف بقدراته المتميزة، وانجازاته المستمرة في مجال الصناعة، وهذا الهيكل الجديد للوزارة يضمن ربط البحث العلمي باحتياجات المجتمع، ولكن الملفت هنا أن نسبة الإنفاق على البحث العلمي في تركيا قد تم مضاعفتها عشر مرات في السنوات التسع الأخيرة، لترتفع من واحد في الألف، إلى واحد في المائة، وسيتم مضاعفتها في الميزانية القادمة لتصل إلى 2 في المائة، وهي أعلى نسبة إنفاق على البحث العلمي في العالم، بالتساوي مع الولاياتالمتحدة. ولعل أول الإنجازات الحقيقية للوزارة الجديدة، يتمثل في تدشين "أردوغان" بنفسه لمشروع "الكتاب الالكتروني"، الذي يحتوي على مناهج طلاب المدارس التركية الحكومية، حيث سيتم صناعة هذه اللوحات الالكترونية محلياً في تركيا، ثم توزع مجاناً على جميع طلاب المدارس الحكومية المقدر عددهم ب 15 مليون طالب. دروس مستفادة، وخبرات جديدة يضيفها "أردوغان" إلى رصيده، بتشكيلة حكومته التي ستكون الأخيرة له، وفقًا للنظام الداخلي للحزب الذي يمنع ترشح شخص أكثر من ثلاث دورات متتالية، وفي النهاية.. يجب أن نلفت الانتباه أيضًا أن شخصية "أردوغان" التي تتسم بالكاريزمية، لم تلغ صلاحيات الحكومة أو هياكل الحزب كما حدث ويحدث مع أحزاب أخرى، فالعدالة والتنمية لا يوصف بأنه حزب "أردوغان"، ويرجع السبب الرئيس لذلك أن الرجل قوي وكذلك الحزب أيضًا، وهذا هو الفارق الأساسي عن القوى السياسية الأخرى، التي ضرب لها رئيس وزراء تركيا النموذج والقدوة والصورة المختلفة، تاركًا الجميع يلهث خلفه، بينما يحلق بعيدًا في العام 2023، مع حلم تركيا.. الدولة العظمى العاشرة في العالم. [email protected]