مايجري الآن من أحداث علي الساحة السياسية المصرية يذكرني بمسرحية "بعد السقوط" After the Fall للكاتب المسرحي الأمريكي الشهير آرثر ميللر Arthur Miller ، والتي يتصدر فيها "كوينتن" Quentin المسرحية كبطل وحيد ، وتدور كل أحداث المسرحية في ذهن كوينتن هذا وخيالاته وأفكاره وخواطره ، وتدور كل هذه الأفكار والخواطر أمام ديكور يمثل معسكرات النازي إبان الحرب العالمية الثانية ، والتي تشكل العنصر الرئيسي في هوية اليهود المعاصرين الذين مثلهم الكاتب اليهودي ميللر في شخصية كوينتن ، التي أجمع النقاد أنها تمثل ميللر نفسه ، وأن أحداث المسرحية تمثل العديد من جوانب حياة الكاتب الحقيقية ، بالضبط كما يمثل (ديكور) الإسلاموفوبيا العنصر الرئيسي في في المشهد السياسي المصري حالياً. المسرحية التي عرضت علي مسارح برودواي في أوائل الستينيات من القرن المنصرم وترجمها للعربية الأستاذ أنيس منصور في الثمانينينات تقريباً تمثل واقع مصر بشكل كبير ، ذلك الواقع الذي يتمثل كل تيار سياسي فيه شخصية كوينتن البطل الوحيد في المسرحية ، ويعرض كل الرؤي والأفكار والخواطر من خلال أيدولوجيته الخاصة ورؤيته المحدودة لموازين القوي المحيطة به ، وتفرض العناصر الرئيسية لأيدولوجية كل تيار سياسي نفسها علي رؤيته بما يجعله يعيش في عالم موازي للحقيقة ، قد يقترب منها في كثير من الأحيان لكنه لا يتقاطع معها أبداً ، بما يجعل إدراكه لموازين القوي المحيطة به – والذي يعتبر أهم عنصر لبقاء أي تيار سياسي – ضعيفاً للغاية ، أو شبه منعدم في كثير من الأحيان. في هذا المقال أناقش موازين القوي التي أعتقد أنه يجب علي الإسلاميين أن يدركوا أبعادها جيداً ، ويتفاعلوا معها من منطلق كونها حقائق لا احتمالات مجردة ، وأن تصاغ برامج الأحزاب السياسية الإسلامية وخطط العمل السياسية علي أساس الحفاظ علي تلك الموازين في حالة استقرار بما يوفر الاستدامة اللازمة للرسالة الإصلاحية لتلك التيارات في المجتمع ، وفي نهاية المقال أطرح بعض المواضع والأسئلة التي أري أنه يجب علي التيارات الإسلامية أن تجيب عنها في المرحلة الحرجة الحالية. 1- المجلس العسكري لا شك أن المجلس العسكري يعتبر أهم قوة سياسية في مصر الآن ، ويخطئ الكثيرون عندما يظنون أن المجلس ليس (قوة سياسية) وأنه مجرد (حاكم مؤقت) للبلاد ، فالمجلس العسكري له استراتيجية عسكرية محددة ، وبالتالي فالمجلس العسكري يرغب في أن تكون القيادة السياسية للبلاد لها أيدولوجية معينة تقتضي الحفاظ علي تلك الاستراتيجية العسكرية التي تكونت وتشكلت من خلال عشرات السنين التي تلت اتفاقية السلام بين مصر وإسرائيل ، لاسيما أنه في خلال تلك العقود قد تغيرت البنية التسليحية للجيش تماماً ، وأصبحت القوات المسلحة المصرية – بعد أن كانت تعتمد علي عدة مصادر مختلفة للتسليح – تعتمد بشكل رئيسي إن لم يكن وحيداً علي التسليح الأمريكي عن طريق المعونة العسكرية الضخمة التي ناقشت تأثيرها علي القرار السياسي للمؤسسة العسكرية في مقالي السابق في هذه الصحيفة الغراء ، فالمجلس العسكري يرغب أن يكون النظام السياسي القادم لحكم مصر له أيدولوجية تدعم استدامة تلك الإستراتيجية العسكرية التي تأسست في عهد السادات ونمت وترعرعت وتم توسيعها وتثبيتها في عهد مبارك بمساعدة ومعونة المؤسسة العسكرية ، فمن الصعب للغاية الآن – إن لم يكن مستحيلاً – أن تتصور القيادة العسكرية وصول تيار سياسي ذو أيدولوجية غير متوافقة مع الاستراتيجية العسكرية المهيمنة علي الجيش الآن ، والذي يعني ضمناً توقف المعونة العسكرية السنوية ، بل وربما فرض عقوبات عسكرية أو اقتصادية علي البلاد أيضاً. إن الحفاظ علي هذه الاستراتيجية العسكرية واستدامتها يفرض علي المؤسسة العسكرية أن تكون لها آراء سياسية ووجهات نظر مؤثرة فيما يجري في سيناريو انتقال السلطة في مصر ، وبالفعل فإن المؤسسة العسكرية تسعي بشكل حثيث لفرض هذه الآراء السياسية علي المستقبل السياسي القريب في البلاد ، ومن الواضح تماماً أن الإسلاميين لا يتفاعلون مع هذه الحقيقة من حيث كونها حقيقة واقعة ، بل الجانب الكبير منهم ينكرها عملياً ، والبعض الآخر يعدها من جملة التشاؤم والإفراط في سوء الظن! 2- التيارات العلمانية والليبرالية من أكبر السلبيات التي أراها في رؤية التيارات الإسلامية في مصر هي النظرة للتيارات العلمانية والليبرالية ، فالإسلاميون – والسلفيون بشكل خاص - ينظرون لهذه التيارات علي أنها تيارات فكرية خالصة ويتعاملون معها بتنظير وأكاديمية مفرطة ، بينما في واقع الأمر أن تلك التيارات ماهي إلا ظلال للإرادة الأمريكية في مصر ، وبالكاد يمكن للمرء أن يعد علي أصابع اليد الواحدة عدداً من قيادات هذه التيارات ممن له دراية حقيقية بالفكر الفلسفي الغربي ، فالواقع أن التيارات العلمانية والليبرالية تمثل (الروبوت) الأمريكي والغربي في مصر ، فهي تمتلك (مجسات) تستطيع من خلالها قياس المتغيرات المختلفة للحراك السياسي في مصر مابعد الثورة ، وتمتلك وسائل تواصل تنقل من خلالها هذه القياسات الدقيقة لوحدات (المعالجة المركزية) في واشنطن ، التي تقوم بتسجيل تلك القياسات وتحليلها ثم تصدر العديد من (الأوامر) والمعطيات لهذه التيارات ، فتقوم بتنفيذها من خلال عدد من الأدوات الإعلامية والسياسية التي تمتلكها في مصر وتقوم بتشغيلها من خلال (البطارية) الموجودة في السفارة الأمريكية والتي تقوم بمد هذه الأدوات بالطاقة (المالية) اللازمة للقيام بكل العمليات الدقيقة التي تريدها وحدات المعالجة المركزية في واشنطن ، والتي تكافح الآن لضمان استقرار مصالحها الاستراتيجية في مصر في ظل تنامي متسارع لشعبية وقوة التيارات الإسلامية التي تعتبرها الولاياتالمتحدة أكبر خطر يهدد حليفتها الأولي اسرائيل ويهدد مصالحها بشكل عام. إن التقارير المتعددة عن حصول التيارات العلمانية والليبرالية علي دعم مالي أمريكي من خلال المنح التي تقدمها السفارة الأمريكية لما يسمي (بمؤسسات المجتمع المدني) في مصر تجعل من المستحيل علي أي عاقل أن ينكر العلاقة (الآلية) بين تلك التيارات والمصالح الأمريكية الاستراتيجية في مصر ، وبإدراك تلك الحقيقة للتيارات العلمانية والليبرالية يمكن القول أن تلك التيارات تمثل ثقل سياسي كبير وتحدٍ متزايد أمام الإسلاميين الذين يجب عليهم الآن التعامل مع العلمانيين والليبراليين من منطلق كونهم يمثلون الثقل السياسي الأمريكي والغربي في مصر ، وليس فقط من منطلق كونهم أصحاب فكر غربي ومؤمنين بفلسفة الحداثة ومقتضياتها السياسية والاجتماعية. 3- الولاياتالمتحدة والمجتمع الدولي مما يدعو للأسف الشديد التهميش الواضح لموازين السياسة الخارجية في المشروع السياسي الإسلامي في مصر ، فالأدبيات الإسلامية التي تناقش التحديات المتمثلة في هيمنة الولاياتالمتحدة علي ما يسمي بالمجتمع الدولي والأمم المتحدة شحيحة للغاية ، وغالبية المتاح منها يناقش الجانب العسكري في البلاد التي تعرضت للاحتلال من قبل الولاياتالمتحدة كالعراق وأفغانستان والصومال ، بينما تتجسد تلك التحديات – في حقيقة الأمر – بالنسبة إلي مصر في اعتماد مصر الرئيسي والأساسي علي المعونات الأمريكية الاقتصادية والعسكرية والتنموية ، فاستلهام محنة السوادان مع الولاياتالمتحدة والتي بدأت منذ وصول الإسلاميين إلي سدة الحكم في السودان يفرض علي الإسلاميين في مصر حتمية صياغة سيناريوهات سياسية وطرح بدائل متعددة لمواجهة احتمال فرض عقوبات دولية علي مصر في حالة وصول الإسلاميين إلي سدة الحكم سواءً كان ذلك متمثلاً في فوزهم بأغلبية في البرلمان أو في توليهم لكرسي الرئاسة أو في كليهما معاً ، ففرض عقوبات دولية علي مصر قد يعني تدهور الأمن الغذائي المصري إلي مستويات تهدد بحدوث مجاعات وتدهور الأمن الدوائي كذلك ، فاعتماد مصر علي واردات الأدوية – لاسيما الحيوية منها – يكاد يكون كاملاً في مواجهة صناعة دواء قومية متدهورة وضعيفة للغاية. إن احتمال فرض عقوبات دولية علي مصر في حالة وصول التيار الإسلامي لسدة الحكم يتعاظم للغاية في ظل الظروف العالمية الحالية وحالة الإسلاموفوبيا التي يعيش فيها الغرب والولاياتالمتحدة ، وبالتالي فإن التيارات الإسلامية مطالبة بدراسة هذا الإحتمال جيداً وتقديم الحلول والإجابات عنه للناخبين الذين سيذهبون لاختيار الإسلاميين في البرلمان وهم لا يعلمون أن ذلك قد يعني دخول البلاد في أزمة قاتلة لها أبعاد اقتصادية وغذائية وصحية مدمرة. 4- مواضيع وأسئلة أخري • لا يستطيع المرء أن ينكر أن هناك تحولاً حركياً كبيراً في موقف التيار السلفي – لاسيما الدعوة السلفية بالإسكندرية – فيما يختص بالعمل السياسي ، وهذا التحول الحركي يعكس بطبيعة الحال تحولاً فكرياً ، ويشي أنه ثمة مراجعات فكرية قد حدثت مما أدي لمراجعة العديد من المفاهيم التي كان التيار السلفي يتبني ثباتها وديمومتها ، علي سبيل المثال لا الحصر قبول مفاهيم حقوق المواطنة بما تقتضيه من مساواة بين المسلم وغير المسلم ، وبين الرجل والمرأة ، وبين أهل العلم والعامة ، خاصة فيما يتعلق بالمساواة أمام القضاء وفي أهلية المشاركة في صناعة القرار ، فالسؤال الذي يتحتم علي قادة التيار السلفي ومشايخه الإجابة عليه الآن هو : أين هذه المراجعات الفكرية وما هي حيثياتها ؟ وما هي حيثيات التراجع عن الآراء الفقهية التي كانت ترفض الاعتراف بحقوق المواطنة والمساواة المطلقة التي يقتضيها النظام الديمقراطي الذي يعمل من خلاله السلفيون الآن ؟ إن تقديم هذه المراجعات بنفس نموذج المراجعات الفقهية التي أجرتها الجماعة الإسلامية هو واجب متحتم علي قادة ومشايخ الدعوة السلفية الآن. • لماذا لا تتحد التيارات الإسلامية كلها في ائتلاف سياسي واحد متعدد الأحزاب ؟ بمعني أن تظل الأحزاب الإسلامية المختلفة وكياناتها المستقلة كما هي لكن تتحد في ائتلاف سياسي واحد يعمل علي توحيد كتلة الإسلاميين البرلمانية والانتخابية ، ويعمل علي حل قضية تعدد مرشحي الرئاسة الإسلاميين ويعمل علي توحيد الرؤي المختلفة للمشروع الإسلامي بشكل متكامل. إن وجود هذا الإئتلاف سيضمن تقوية شعبية الإسلاميين بشكل غير مسبوق ، مما سيؤدي لحدوث نوع من التوازن مع التهديدات الخارجية المتمثلة في المجتمع الدولي والولاياتالمتحدة ، أما بقاء هذا التشرذم والتضارب في الرؤي الإصلاحية ، والتنافس بين مرشحي الرئاسة المختلفين سيفقد المشروع الإسلامي بريقه المتوقع وسيجعل من السهل إلي حد كبير علي الغرب عزل أجنحة التيار الإسلامي عن بعضها البعض ، واثارة عامة الشعب ضد المشروع الإسلامي ككل. * باحث زائر – جامعة ماليزيا التكنولوجية [email protected]