قبل عدة أسابيع خلت، وغداة تغيير موقفه بشأن قيام دولة فلسطينية مستقلة، تساءل البعض ما الذي يدفع الرئيس الأميركي باراك أوباما للسير في طريق التراجع المهين ذاك؟ قبل عدة أيام وخلال حفل عشاء أعدته جماعة «الأميركيون الداعمون لعلاقات قوية بين الولاياتالمتحدة وإسرائيل»، قال أوباما إن إدارته تفوقت على أية إدارة أخرى على مدى 25 عاما في دعم أمن إسرائيل. وأضاف: «إن أمن إسرائيل سيكون دائما في صدارة الاعتبارات في ما يتعلق بكيفية إدارة أميركا لسياساتها الخارجية.. وإن إسرائيل هي حليفنا وصديقنا الأوثق، إنها دولة ذات ديمقراطية قوية، إننا نتشارك معا في قيمنا ونتشارك معاً في مبادئنا». لماذا يتصرف قيصر العصر على هذا النحو؟ الجواب في «الحاجة إلى صك الغفران اليهودي» في شقيه المالي والأدبي، قبل انطلاق حملة أوباما الانتخابية الرئاسية الثانية. في تلك الأمسية دفع كل فرد من الذين حضروها ما بين 25 ألفا و35 ألف دولار، أي أن أوباما جمع قرابة ربع مليون دولار لحملته الانتخابية في أقل من ساعة، ناهيك عن التغطية الإعلامية. تطرح مواقف أوباما الأخيرة علامة استفهام جوهرية حول حتمية هذا الصك، ولماذا يتسابق المرشحون لنيل رضى إسرائيل قبل الدخول في معركة الانتخابات الرئاسية، في أفضل بلد تباع وتشتري فيه الديمقراطية بالأموال والدعاية! وأوباما نفسه يدرك هذا جيدا، فقد وصل إلى ما وصل إليه عبر تبرعات متواضعة ما بين الخمسة والعشرة والعشرين دولارا، لكنها في مجموعها مكنته من شراء أوقات دعائية على شاشات التلفزة الأمريكية حتى اللحظات الأخيرة قبل الاقتراع على الرئاسة، مما كان له عظيم الأثر على المشاهد الذي تطحنه عجلة الرأسمالية المتوحشة، ولا قبل له بالتنظير الفكري أو التفكير الأيديولوجي للتفريق بين مرشح وآخر أو بين جمهوري وديمقراطي. في مؤلفه البديع «سطوة إسرائيل في الولاياتالمتحدة»، يخبرنا أستاذ علم الاجتماع السياسي في جامعة نيويورك البروفيسور جيمي بتراس: «إنه لا يمكن فهم بنية النفوذ الصهيوني ZPC بأنه يتمثل في اللوبي الصهيوني فقط، أو حتى في الايباك مهما كانت مهيبة». هذا القول يحيلنا إلى عملية بحثية تاريخية، تقودنا إلى القول بوجود شبكة مؤلفه من مجموعات رسمية وغير رسمية مترابطة، تعمل على مستويات دولية ووطنية ومحلية، وتتبع بصورة مباشرة ومنهجية دولة إسرائيل والمتمتعين بالنفوذ فيها وصناع القرار الرئيسي. لماذا يحتاج أوباما إلى الصك اليهودي؟ لأنه يواجه تلك الأذرع الأخطبوطية التي تستخدم النفوذ ببراعة، من خلال التأثير المباشر لممثلي الصهاينة في الحكومة، ولا سيما في وزارة الدفاع (البنتاغون) في الفرع التنفيذي من الحكومة الأمريكية، وفي الكونغرس الفرع التشريعي على حد سواء، ومن خلال التأثير غير المباشر عبر استخدام الأموال أثناء الحملات، وذلك: * للتأثير في اختيار المرشحين المنتمين إلى الحزبين السياسيين الرئيسيين. * للتغلب على منتقدي إسرائيل، ومكافأة المنتخبين الذين سيلتزمون بالخط الإسرائيلي. ورغم أن الايباك تخفي الطريقة التي تعمل بها في واشنطن، وكذلك بقية جماعات الضغط الموالية لإسرائيل، إلا أن سياسات العصا والجزرة، واضحة كل الوضوح في تصرفاتها تجاه أعضاء الكونغرس وتجاه ساكن البيت الأبيض. إن نواب وشيوخ أمريكا، يعرفون تلك الأساليب عندما يضعون قوائمهم للجهات التي تتبرع لصالح حملاتهم الانتخابية، وهذه التبرعات مرهونة بالتصريحات التي يحضرونها لتقديمها إلى لجنة الانتخابات الفيدرالية. أما الرؤساء، فالأمر بالنسبة لهم يتراوح بين الموت الجسدي كما في حال جون كيندي، أول رئيس أمريكي له موقف واضح من البرنامج النووي الإسرائيلي، ومن الهيمنة الإسرائيلية في الشرق الأوسط، وصولا إلى الموت الأدبي وإفشال فرصه في الوصول للرئاسة مرة أولى أو أخيرة، كما جرى مع جورج بوش الأب الذي عاقبه رئيس وزراء إسرائيل اسحق شامير عام 1992 بإسقاطه في انتخابات الرئاسة الأمريكية، وذلك بسبب دفع بوش شامير للذهاب إلى مؤتمر السلام في مدريد، وتهديد إدارته بوقف قرض المليارات العشرة لإسرائيل والخاصة ببناء مستوطنات جديدة. يحتاج أوباما إلى الصك اليهودي كذلك، بسبب العلاقة الجديدة نسبيا التي ربطت الصهيونية في أمريكا بقطاع عريض من المسيحيين الأميركيين. فالمقطوع به أنه في فترة مواجهة التيار الشيوعي، تحول الايباك لجهة المحافظين المسيحيين الأميركيين، لتوسيع قاعدة دعم إسرائيل لتشمل اليمين المسيحي، وبذلك تضم أناسا لا يكترثون بما يجري في الضفة الغربية، لكنهم يهتمون بالاتحاد السوفييتي. هؤلاء هم الأصوليون الذين يؤمنون بحرفية الكتاب المقدس، والذين يعتبرون إسرائيل مفتاحا لبقاء الولاياتالمتحدة الأخلاقي والسياسي. وقد احتضن رئيس وزراء إسرائيل السابق مناحم بيغن، أولئك الذين سموا أنفسهم «الصهيونيون المسيحيون»، ومكن للعلاقة بينهم وبينه عندما منح جائزة «جابوتنسكي» الرفيعة لأبرز زعمائهم جيري فالويل، زعيم ما كان يعرف بالأغلبية الأخلاقية. وتضييق المساحة في الحديث عن تلك العلاقة العضوية التي تربط بين واشنطن وتل أبيب، وعن أهمية وحتمية هذا الصك. لكن على الجانب الآخر، ألا يحق لنا التساؤل ما الذي فعله العرب زرافات ووحدانا في مواجهة استحقاقات هذا الصك؟ وهل هو صك أزلي على لوح محفوظ؟ أم أن العرب بدورهم قادرون على بلورة موقف ما، يجعل أوباما ثابتاً على أقواله وفي غير حاجة لصك الغفران اليهودي؟ نقلا عن البيان