يكثر التساؤل بين الفينة والأخرى، عن صيغة جامعة يتفق عليها الإسلاميون، والعاملون للإسلام من الجماعات والحركات الإسلامية، تقدم للناس، على أنها الجوامع المشتركة التي يمكن أن تعبر عن الإسلام، وقد حاول في بداية أربعينيات القرن الماضي الإمام الشهيد الشيخ حسن البنا، أن يقدم صيغة يتوافق عليها العاملون للإسلام من مشيخة الأزهر، والسلفيين، والصوفية، وكل الحركات الإسلامية آنذاك، فكتب ما يعرف في أدبيات البنا والإخوان المسلمين باسم (الأصول العشرين) في غرة رمضان الموافق 1362ه الأول من أكتوبر سنة 1942م، وقد كانت مناسبة لوقتها، وأظن أن الوقت وفرضية الوقت الآن تقتضي صيغة أخرى مناسبة، تقدم للناس على أنه ميثاق فكري يعبر عن الإسلام الوسطي المعتدل، يلتقي عليه العاملون للإسلام، وقد اجتهد الدكتور يوسف القرضاوي في وضع ثلاثين معلما من هذه المعالم التي تعبر عن الإسلام الوسطي، وهي كالتالي: 1 العلم الراسخ والفهم الشامل والمتوازن للإسلام، بحيث تتجلَّى فيه خصيصتان: الأولى: الشمول، والثانية: التكامل، بوصفه: عقيدة وشريعة، علمًا وعملاً، عبادة ومعاملة، ثقافة وأخلاقًا، حقًّا وقوَّة، دعوة ودولة، دينًا ودنيا، حضارة وأمة. والخصيصة الثانية: هي المزج المتوازن بين المتقابلات، أو الثنائيات، كالمزج بين الروحية والمادية، بين الربانية والإنسانية، بين الفكر والوجدان، بين المثالية والواقعية، بين الفردية والجماعية. 2 الإيمان بمرجعية القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة، للتشريع والتوجيه للحياة الإسلامية، مع ضرورة فهم النصوص الجزئية في ضوء المقاصد الكلية. 3 تأسيس العقيدة على الإيمان بالله، وباليوم الآخر، والتوحيد الخالص: توحيد الربوبية، وتوحيد الإلهية، وتوحيد الحاكمية، فيتحرَّر الإنسان من العبودية للإنسان، ومن كلِّ ما سوى الله. والإيمان بأن محمدًا رسول الله، المبعوث بالرسالة العالمية الخالدة، ختم الله به النبيين. 4 التقرُّب إلى الله وحده بما شَرَع من العبادات، والتركيز على عبادة الله تعالى بوصفها الغاية التي خُلق لها الإنسان، وهي تتجلَّى في الشعائر الأربع الكبرى، وما يليها من ذكر الله، والدعاء، والاستغفار، هذا بالإضافة إلى العبادات الباطنية: من صدق النية والإخلاص لله، والخشية له، .. وغيرها، وهي أساس التصوف الحقيقي الذي يقوم على (الصدق مع الحق، والخُلُق مع الخَلق). 5 تزكية النفس ومجاهدتها، حتى تتحلَّى بمكارم الأخلاق، التي عُني بها الإسلام، سواء كانت أخلاقًا فردية أم اجتماعية، ورفض موقف الذين يعتبرون العبادات الشعائرية هي كل شيء، وموقف الذين يعتبرون الأخلاق كل شيء. 6 تأكيد فرضية الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والنصيحة في الدين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتواصي بالحق، والتواصي بالصبر. 7 ترسيخ القيم الإنسانية والاجتماعية، مثل: العدل والشورى والحرية والكرامة، وحقوق الإنسان. 8 احترام العقل بجوار الوحي، والدعوة إلى النظر والتفكر، وتكوين العقلية العلمية، ومقاومة الجمود والتقليد الأعمى للآباء أو للسادة والكبراء، أو لعامة الناس. ونفي التعارض بين النقل الصحيح والعقل الصريح. 9 تجديد الدين من داخله، بتجديد الفهم له، وتجديد الإيمان به، وتجديد العمل به، وتجديد الدعوة إليه. وإحياء مبدأ الاجتهاد الذي لا تحيا الشريعة إلا به، على أن يكون الاجتهاد من أهله، وفي محله. 10 الدعوة إلى فقه جديد، فقه في الكون، وفقه في الدين، وهو يضمُّ عدة ألوان من الفقه المنشود: فقه سنن الكون، وفقه مقاصد الشرع، وفقه المآلات، وفقه الموازنات، وفقه الأولويات، وفقه الاختلاف، والفقه الحضاري، وفقه التغيير، وفقه الواقع. 11 إنصاف المرأة وتكريمها، والحفاظ على فطرتها، وتوكيد ما جاء به الإسلام من إعطاء المرأة حقوقها ومكانتها وكرامتها، وتحريرها من رواسب عصور التخلف والتراجع الإسلامي، ومن غوائل الغزو الحضاري الغربي الذي أخرج المرأة من فطرتها، ولم يراع أنوثتها. 12 العناية بالأسرة نواة للمجتمع، والدعامة الأولى لقيام المجتمع الصالح، ورعاية حقوق كلٍّ من الزوجين على صاحبه، وعدم اللجوء إلى الطلاق إلا إذا تعذَّر الوفاق، وشرعيَّة تعدُّد الزوجات بقيوده وشروطه، دون توسع ولا تحريم. وتوسيع نطاق الأسرة حتى تشمل العصبة والأرحام. 13 تكوين المجتمع الصالح المتكافل، المجتمع الذي يقوم على الإخاء والتكافل والتراحم بين أبنائه، يحمل غنيُّه همّ فقيره، ويأخذ قويُّه بيد ضعيفه، ويشدُّ بعضه أَزْرَ بعض. 14 الإيمان بوجود الأمة الإسلامية ورسالتها والولاء لها، وخلودها، والإيمان بفرضيّة وحدتها، وبالأخوة الدينية بين أبنائها، على اختلاف مدارسها ومذاهبها، واعتبار الفرق المختلفة كلها من الأمة الواحدة، ما دامت تُصلِّي إلى القبلة، وتؤمن بالقرآن الكريم، وبالسنة النبوية المشرفة. 15 إقامة الدولة العادلة حاملة الدعوة، التي تقود الأمة إلى الحق والخير، وتقيم عدل الله في الأرض، وتحتكم إلى ما أنزل الله من الكتاب والميزان، وتحترم حق الشعوب في اختيار حكامها، دون تزييف لإرادتها، أو فرض حاكم عليها يقودها رغم أنوفها، ولها - بل عليها - أن تُسائله وتحاسبه، وتعزله إذا تمادى في غيه بالطرق السلمية. 16 تجنُّب التفسيق والتكفير ما وجد إلى التجنُّب سبيل، ولاسيما ما كان سببه التأويل، وتحسين الظن بكلِّ من شهد الشهادتين، وصلى إلى القبلة، ولم يصدر منه ما يخالفها بيقين، والأصل حمل حال المسلم على الصلاح ما أمكن ذلك. 17 تقوية اقتصاد الأمة، تقويةً تقوم على العلم والخبرة، وعلى الإيمان والأخلاق، والعمل على تكاملها فيما بينها، وبناء هذا الاقتصاد على فقه الشريعة ومقاصدها، والسعي العملي لتأسيس اقتصاد إسلامي متميِّز عن الاقتصاد الرأسمالي والاقتصاد الشيوعي. 18 الإيمان بضرورة التعدديَّة والتعارف والتسامح بين الشعوب، وبأن البشريَّة أسرة واحدة، وضرورة التعايش بين الحضارات، والتلاقح بين الثقافات، وتفاعل بعضها مع بعض، واقتباس بعضها من بعض، دون انكماش ولا استعلاء. 19 إنشاء حضارة العلم والإيمان، حضارة ربَّانية، إنسانية، أخلاقية، عالمية، تجمع بين العلم والإيمان، وتمزج بين الروح والمادة، وتوازن بين العقل والقلب، وتصل الأرض بالسماء، وتقيم التوازن والقسط بين الفرد والمجتمع، وتعلي قوة الحق على حق القوة. 20 الرقيُّ بالفنون وتوظيفها في خدمة رسالة الأمة: فروح الفن هو الشعور بالجمال، والتعبير عنه بطريقة جميلة. والإسلام يُحْيي هذا الشعور في نفس المسلم، ويُعلِّمه النظر إلى الجمال في الكون والإنسان، باعتباره من صنع الله الذي أتقن كل شيء. ويرحِّب الإسلام بالفنِّ الراقي المسموع والمرئي والمصنوع. ويوظفه في خدمة الحق والخير، وينأى به أن يكون أداة لإثارة الغرائز والشهوات الدنيا. 21 عمارة الأرض وتحقيق التنمية ورعاية البيئة، والتعاون على كلِّ ما يُيسِّر المعيشة للناس، وكل ما يشيع الجمال في الحياة، واعتبار ذلك عبادةً وجهادًا في سبيل الله. 22 السلام مع المسالمين، والجهاد مع المعتدين، وتوعية الأمة بأن الجهاد مفروض عليها فرض عين، لتحرير أرضها من كلِّ سلطان أجنبي مسلَّط عليها. والعمل على تجميع كل القوى والجماعات والحركات العاملة لنُصرة الإسلام، وبعث أمته، في صفّ واحد، ووجهة واحدة. 23 العناية بالأقليات الإسلامية في العالم، باعتبارها جزءًا من الأمة المسلمة، وعلى الأمة أن تُعينهم على أن يعيشوا بإسلامهم في مجتمعاتهم، عناصر حيَّة فاعلة، وأن يكون لهم فقههم الخاص، وأن يكون شعارها: استقامة على الدين بلا انغلاق، واندماج في المجتمع بلا ذوبان. 24 العناية بالأقليات الدينية في مجتمعاتنا الإسلامية، ومعاملتهم بما أوجبه لهم الإسلام من تركهم وما يدينون، والتأكيد على أنهم من (أهل دار الإسلام) ومقتضى هذا: أنهم بلغة عصرنا (مواطنون) لهم ما لنا وعليهم ما علينا، إلا ما اقتضاه التميُّز الديني. 25 تَبنِّي منهج التيسير في الفتوى، والتخفيف في الفقه والفتوى، وإن كان ولا بد من التشديد، فليكن في الأصول لا في الفروع. والتيسير المطلوب هنا: لا يعني تبرير الواقع، أو مجاراة الغرب، أو إرضاء الحكام. وكذلك تبنِّي منهج التبشير في الدعوة، ودعوة المسلمين بالحكمة والموعظة الحسنة، ودعوة المخالفين عن طريق الحوار بالتي هي أحسن، مع ضرورة رعاية روح العصر، وأسلوب العصر. 26 رعاية سُنَّة التدرُّج وسائر سنن الله، التدرُّج الحكيم في الدعوة والتعليم والإفتاء والتغيير، وعدم استعجال الشيء قبل أوانه، والثمرة قبل نضجها. مع وجوب رعاية سنن الله في الكون والمجتمع، فمَن راعى السنن راعته، ومن ضيّعها ضيّعته. 27 الموازنة بين ثوابت الشرع ومتغيِّرات العصر، مع ضرورة مراعاة الثبات في الأهداف والغايات، وفي الأصول والكليات، والمرونة والتطور في الوسائل والآليات، وفي الفروع والجزئيات. ومن الخطر تغيير الثوابت، أو تثبيت المتغيّرات. 28 وضع التكاليف في مراتبها الشرعية، بفهمها فهمًا متوازنًا، وإنزال كل تكليف منزلته وَفْق ما جاءت به محكمات النصوص والمقاصد، فلا يتقدَّم ما حقُّه التأخُّر، ولا يتأخَّر ما حقُّه التقدُّم، وهو ما أطلقنا عليه اسم (فقه الأولويات). 29 ضرورة الإصلاح الشامل، والتغيير الجذري، إصلاح لا يقف عند السطوح، ولا يغوصُ في الأعماق، ولا يكون الإصلاح حقيقيًّا إلا إذا تمَّ بإرادتنا وبأيدينا، لا أن يفرض علينا، ومدخل كل إصلاح هو إصلاح الأنظمة السياسية المستبدَّة، وأساس كل تغيير هو تغيير الإنسان من داخله. 30 الانتفاع بتراثنا الغني بما فيه من علوم وفنون وآداب، مع العلم بأن هذا التراث كله غير معصوم، فهو قابل للنقد والمراجعة والمناقشة والترجيح أو التضعيف. ولكن الأمة في مجموعها لا تجتمع على ضلالة. كما يجب العمل على إحياء هذا التراث وخدمته بأساليب العصر وآلياته، وانتقاء الملائم منه لتعميمه ونشره على جماهير الأمة، وإبقاء الأشياء الأخرى لدراسة المتخصِّصين. فهذا مشروع ميثاق فكري عن الإسلام، والجوامع المشتركة الفكرية بين الجميع، يقبل الإضافة، والتعديل، يمكن أن نقوم بجمع التوقيعات عليه، أو التلاقي عليه للعرض والتقديم، وربما يحتاج إلى شرح مفصل نقوم به إن شاء الله في كتاب مفصل، يخدم الفكرة أكثر. كما نتمنى أن تتحول إلى مشروع عملي، يكون بداية عمل متواصل لوصول الفكرة الإسلامية الوسطية للناس جميعا. [email protected]