النظام السوري يُفكّر بعقلية المؤامرة، ووراءه فريق ممّن يُسمون إعلاميين ومحللين ومثقفين يطلعون علينا في الفضائيات، يُزايدون على نظامهم في التفكير والحديث بعقلية المؤامرة، ولا أدري هل هم حقاً مقتنعون بما يزعمونه ؟. الاتهامات بالتآمر للخارج، خصوصاً لقوى الغطرسة والإمبريالية والصهيونية العالمية وإلى آخر تلك التوصيفات والشعارات التي عفا عليها الزمن معروفة، فهي جزء من الخطاب الخشبي لهذا النظام. الجديد أن العرب كان لهم نصيب من اتهامات شقيقهم السوري بالتآمر عليه، كيف يتآمرون وهم صامتون عن أنهار الدماء؟. المؤامرة بدأت بالأردن، عندما انطلقت الانتفاضة من " درعا " القريبة من الحدود، ثم انتقلت التهمة إلى تيار المستقبل، وشخصيات نيابية لبنانية، وسعودية بدعم المتظاهرين بالمال والسلاح - يُسميهم النظام عصابات مسلحة إرهابية - لضرب استقرار سوريا. ولما اتسعت الانتفاضة لتشمل كل سوريا، امتد الاتهام بالتآمر إلى العراق بزعم أن السلاح والمقاتلين يأتون من هذا البلد، سبحان مُغيّر الأحوال، أمس كانت بغداد تشتكي من أن المسلحين يعبرون إليها من سوريا. ثم كانت المفاجأة، أن يصل الاتهام إلى تركيا، حليفة النظام والداعم الأكبر له، منذ انطلقت مظاهرات الحرية حتى بدأ رئيس الوزراء أردوغان قبل أيام يُغيّر موقفه، بعد أن رأى الجيش والأمن يرتكب فظاعات، وأيقن أن النظام لا يستمع لنصائحه بالإصلاح . الاتهامات ما زالت تُوزّع يميناً ويساراً لكل من يُقدّم نصيحة مخلصة للنظام السوري لا تأتي على هواه، حيث يتحوّل إلى متآمر على حائط المقاومة والممانعة. حتى عمرو موسى الذي نطق أخيراً بعبارات عامة واصفاً الوضع في سوريا بأنه خطير، وهو كلام إنشائي لا يحمل رأياً حاسماً فيما يجري ولا انحيازاً للمطالبين بالحرية فإن السوريين يكيلون له الاتهامات. إنها عقلية الحرب الباردة التي تُدير هذا البلد ليس في التعامل مع العالم الخارجي فقط، لكن في إدارة الأزمة الداخلية، فبدل أن يستجيب النظام لمطالب الشعب، يستخدم خيار القتل، ولا شيء غير القتل، ويختلق قصصاً لا يُصدّقها أحد، ويُردّدها في إعلامه، بأن المتظاهرين عصابات إجرامية مسلحة، وقد اطمأن إلى هذه النتيجة المريحة، وبدأ يتصرّف بناء عليها. تهمة التآمر يُوجّهها النظام إلى شعبه، إلى كل من يُطالب باسترداد إنسانيته، إلى المشتاقين للحرية، فهل نستكثر- إذن - أن يُلقي بالتهمة في وجوه العرب والعجم؟ . والسؤال: هل الذين يتظاهرون بالألوف منذ 15 مارس الماضي وسقط منهم للآن أكثر من 1300 شهيد مسلحون؟. ما هي قوة وجسارة وضخامة هؤلاء المسلحين الذين يُصرّون على مواجهة الجيش، ومعه 17 جهازاً أمنياً ؟ .هل تحوّلت سوريا كلها، أو معظمها إلى عصابات مسلحة، تسعى للموت في مواجهة تُدرك أنها غير متكافئة مع دولة أمنية عتيدة ؟. وماذا كانت تفعل أجهزة الأمن طوال 41 عاماً من حكم الأسد الأب، ثم الابن - والمعروف أن سياسة القبضة الحديدية هي التي تحكم - حتى يظهر المسلحون المتآمرون بهذه الكثافة في ربيع الحرية، ليضربوا الاستقرار والوحدة الوطنية؟. لم نر فيديو لهؤلاء المسلحين وهم يُطلقون الرصاص على قوى الأمن والجيش والمواطنين، لكن الذي نراه أسلحة وأموالاً وقنابل تستعرضها كاميرات النظام، كما نرى تعساء يأتون بهم ليعترفوا على أنفسهم أمام كاميراتهم بأنهم من العصابات المسلحة، وهى أساليب قديمة صارت مستهلكة، وقبل أيام جاؤوا بشخص في "جسر الشغور" وحوله كاميرات قنوات أنصار النظام فقط، وهو زائغ العينين، مذهول ،لا يعرف ماذا يقول في مشهد تمثيلي خائب لا يليق بالدراما السورية المتقنة الإخراج . العالم كله لا يُصدّق رواية المسلحين إلا إيران وحزب الله وروسيا والصين. النظام يقول: إن الجيش ينتشر في المدن والقرى بطلب من المواطنين لحمايتهم من الإرهابيين، فلماذا يفر هؤلاء المواطنون الذين يطلبون الحماية قبل أن يدخل الجيش مناطقهم. كان يفترض بالسكان - وهم غير إرهابيين - أن ينتظروا الجنود بالزهور والأرز وزغاريد النساء على الطرقات، لأن الجيش جاء يحميهم من المجرمين، وليس الفرار من أمامه، حيث يدركون المصير المؤلم الذي ينتظرهم. هروب الألوف إلى تركيا فضح ما يحدث بالمناطق التي يدخلها الجيش، وأسقط الادعاءات بأن الإرهابيين يُروّعون الآمنين ويقتلون رجال الأمن، فلا يوجد مسلحون، ولا عصابات في ربيع سوريا، إنما مواطنون يحلمون بالحرية مثل المصريين والتوانسة والليبيين واليمنيين وغيرهم من الشعوب. استمرار الحديث عن إرهابيين يُجبرون الجيش على خوض معارك معهم في كل سوريا، شهادة إخفاق للنظام الذي يحكم البلد بالأمن، وحوّل نصف السوريين جواسيس على النصف الآخر، وأصدر قانوناً بإعدام من ينتمي إلى الإخوان، بعد مذبحة حماة وسجن تدمر، وقضى على أي وجود لأي جماعات ذات توجّه إسلامي، ويتفاخر بأن سوريا بلد علماني، ثم بعد 41 عاماً من هذه السياسة يشتكي من سلفيين مقاتلين. من أين جاء هؤلاء، ومتى ظهروا، وأين كانت دولة الأمن التي تعدّ على الناس أنفاسهم، وتراقبهم في غرف نومهم؟. شهادات الفارين من الجحيم وهم جنود وضباط انشقوا لهول ما رأوه، ونساء وفتيات وأطفال وشباب ورجال وعجائز، لا هم مسلحون، ولا علاقة لهم بجماعات إرهابية، تكشف تفاصيل مؤلمة عن الفظائع التي تُرتكب ضد السوريين. ما يفعله النظام لم يعد حتى هدفه الحفاظ على حكم الطائفة، التي اختزلت في العائلة وصار سعيها الآن الحفاظ على السلطة والثروة والنفوذ، تماماً كما يفعل القذافي في ليبيا، وكما تفعل الديكتاتوريات العربية التي تهتز عروشها بثورات شعبية حقيقية عظيمة، والسوريون كانوا راضين ببقاء العائلة، مقابل بعض الحرية والكرامة، لكن هذا المطلب مرفوض أيضاً. نظام يُشوّه صورة شعبه، ويصفه بالإرهابي، بدل أن يتفاخر به، ويستمع إليه، وهو ما تفعله الأنظمة الأخرى التي تثور عليها شعوبها حيث يتم إلصاق أبشع التهم بها. أنظمة تُعادي شعوبها، وتحكمها بقوة السلطة، وسلطة القوة، أنظمة على استعداد لنعت شعوبها بما لا يخطر على عقل، واستخدام البطش حتى الإبادة الجماعية، مقابل أن تبقى في الحكم . إذا سقط واحد منها فإنه يذهب إلى مزبلة التاريخ، والذي لا يسقط ويقمع الثورة، فكيف سيحكم شعباً خرج للشوارع ضده يُطالب برحيله، وكيف سيحكم شعباً سالت دماؤه في الشوارع، واغتُصبت نساؤه وفتياته، وعُذّب وقُتل أطفاله؟. لا يمكن أن يستقرّ حاكم على كرسيّه بعد أن قال له شعبه: " إرحل"، وبعد أن بقي بينه وبين شعبه دم.